أحدث الموضوعات
recent

جمال عبدالناصر.. بين التأليه والشيطنة


* عبدالرحمن كمال

بات من الظواهر الغريبة في كل مناسبة عربية، أن تتحول مراسمها إلى نوبات تشنج ولطم ولعن جمال عبدالناصر.. فما بالك بذكرى تخصه، مثل يوم وفاته؟!

لم ألاحظ في أي دولة انتقاد وهجوم وطعن لأبطالها التاريخيين مثل ما يحدث في مصر على وجه الخصوص.. لم اصادف مثلا مواطن بوركيني يلعن توماس سانكارا.. أو مواطن تشيلي يلعن سلفادور اللبندي!

وأعنى بالمواطنين هنا من يمكن أن نطلق عليهم مجازا "السكان الأصليين للبلد".. بعيدا عن طبقة الـ 1% من الحرامية الذين تضرروا من ثورات وقرارات سانكارا والليندي وناصر.

التعاطي المصري مع التاريخ مشوه مثل حاضرنا، بدلا من التعرض لتجربة عبدالناصر بوصفها تجربة تاريخية محورية مهمة في مجمل سجلنا التاريخي المصري والعربي، نتعامل معها بعوار غريب، يتأرجح بين التـأليه والشيطنة، وهو العوار الفج الذي يعمي المبصر عن مشاهدة التجربة ونقدها على حقيقتها، بغرض الاستفادة منها كسلسلة من حلقات التاريخ والنضال. 

لو نظرت إلى حملة مشاعل الشيطنة، ستجدهم صنف من ثلاث: الإسلام السياسي المعتوه الفاشل أينما حل وارتحل، الرأسمالية بجناحيها السياسيين الليبرالي والعلماني، الأنظمة الرجعية من ملكيات وجمهوريات الموز، وتحت كل صنف نخبوي من المذكورين، ستجد مواطنين شعبويين يرددون جملا وعبارات ويلصقون تهما وكوارث من عينة "هزيمة حرب 54!" أن دلت على شيء إنما تدل على مدى السفه والانحدار والاضمحلال الذي حل بالعقل المصري، لا يجعلنا نندهش ولا يمنحنا الحق في التساؤل: كيف وصلنا لهذا الحضيض؟ وكيف حكم وصل لحكم مصر أمثال السيسي؟

الحقيقة، أن كل ما يردده هؤلاء، الأصناف الثلاثة النخبوية ونشطاء السوشيال التوابع والشعوبيين، مردود عليه، ويمكن دحضه، بل إن الدفاع عن عبدالناصر ضد ما يلصقه به هؤلاء أسهل بكثير من محاولة الاجتهاد في إلصاق التهم ذاتها.

الكارثي أن هؤلاء لا ينتقدون الأخطاء الفعلية في تجربة جمال عبدالناصر، بقدر ما ينقضون على مكتسباتها وإنجازاتها، يكفي مثلا أن تتابع ما يكتبونه عن تأميم قناة السويس والإصلاح الزراعي بل والسد العالي، وحتى السياسة الخارجية لتجربة ناصر التي جعلت مصر من أقوى الدول الفاعلة في محيطها الإقليمي، كل هذه الإنجازات يراها هؤلاء عيوبا وأخطاء.. إنه العوار بعينه.

على الجانب الآخر، تجد من يطلقون على أنفسهم "ناصريون" وهم في الحقيقة أكبر عبء على تجربة عبدالناصر، أكبر حتى من كارهي التجربة الذي يمكن بسهولة نقض غزلهم أنكاثا.

هؤلاء الناصريون في حقيقتهم مجرد صنفين: مرتزقة يقتاتون على التجربة، عبر إلباس ثوب ناصر لأشباه رجال طمعا في عطايا ودولارات (مصطفى بكري أبرز نموذج)، ويندرج تحت هذا الصنف أيضا كل أبناء الزعم الراحل، الذي صاروا مليونيرات رغم فقر أبيهم وموته وفي خزانته بضع جنيهات، ولا ننسى أن هدى عبدالناصر كانت من المجرمين الذين برروا ودافعوا بل وأهانت تاريخ جمال عبدالناصر، عندما زعمت أنها وجدت في أوراق والدها ما يثبت سعودية تيران وصنافير، وهو الخبر الذي احتفت به قناة العربية السعودية، التي تعد واحدة من أهم أبواق الإعلام المحسوب على الأنظمة الرجعية أشد كارهي تجربة عبدالناصر!!

حتى نجله، خالد جمال عبدالناصر، الذي يتفاخر الناصريون بكونه عضوا في تنظيم ثورة مصر، تبرأ من الانتماء للتنظيم أثناء المحاكمة، وفقا لما قاله نظمى شاهين أحد أفراد التنظيم والمتهم السادس وفقا لقرارالاتهام عن تنظيم ثورة مصر.

ووفقا لـ"شاهين": "عصمت سيف الدولة كان محامي عننا، وهو طالب في المرافعة بتعويض نص مليون جنيه عن التعذيب اللي اتعذبته، وكان المحامي الأساسي عني أنا ومحمود الله يرحمه أحمد نبيل الهلالي. أما عصمت سيف الدولة ومعظم المحامين كان دفاعهم كله عن خالد عبد الناصر. وطبعا خالد أخد براءة على الرغم إنه كان معانا في التنظيم. هو في الأول هرب برة مصر إلى لندن ثم يوغوسلافيا، وقام أحمد الخواجة نقيب المحامين الأسبق بالسفر إليه لهندسة العلاقة بينه وبين الحكومة، وضمن له حكم البراءة، وبناءً عليه حضر إلى القاهرة وبقي يقف معانا في القفص، وأنكر كل صلته بالتنظيم، والوحيد اللي مارضيش يعترف عليه هو محمود، لأنه افتكر إن وجود خالد خارج السجن هايخليه يبذل محاولات للإفراج أو لتخفيف الحكم عننا، بالإضافة إن محمود كان فاكره هاياخد باله من بناته. لكن طبعا مافيش أي حاجة من دي حصلت، وكل الكتب اللي طلعت عن تنظيم ثورة مصر كان همها الأول والأخير تبرئة ابن الزعيم مع إسباغ الوطنية عليه لعلاقته بالتنظيم. يعنى من الآخر كانت بتقول إنه وطني وعضو في التنظيم لكن برىء، مش عارف إزاي؟ ودى من الحاجات اللي حسستني بمرارة شديدة، لكن ده قدرنا إحنا أبناء الشعب: نشيل السلاح وندافع عن كرامة الوطن، بينما يجني الرؤساء وأبناؤهم الغنائم".

المرارة التي تولدت في نفس نظمي شاهين، راسخة في نفوس المصريين، حتى أولئك الذين يقدرون ويحترمون ويحبون جمال عبدالناصر وتجربته، فالواقع أن عبدالناصر وتجربته شيء، وأبناء عبدالناصر شيء آخر على النقيض منه، وكذلك أولئك المرتزقة من التجربة، سواء كان ارتزاق مادي بالدولار والريال والدرهم، أو ارتزاق معنوي واجتماعي بالمنصب والسمعة الطيبة، أو حتى ارتزاق غرضه الوحيد دفع الضرر المنتظر من إظهار أي بوادر لمعارضة السيسي، أشد نسخ كامب ديفيد قبحا وعمالة، فيهرب هؤلاء المرتزقة من الواقع القائل بخيانة وعمالة السيسي وقادة الجيش (وهي خيانة طبيعية بوصفهم امتدادا لكامب ديفيد والسادات) بالحديث عن ناصر والمتاجرة بتجربته تارة، أو كيل الاتهامات لكل معارضي السيسي من إسلاميين وليبراليين باستخدام بعض مصطلحات اليسار والقومية العربية، مع غض النظر تماما عن كل خيانات السيسي لكل ما مثلته تجربة ناصر يوما، بل لكل ما هو مصري تماما، وفي احسن الأحوال يكتسفون فقط بانتقاد السادات (رغم أن الأب الأيدلوجي للسيسي) كل ذلك في مقابل عدم دخول معتقلات السيسي والهروب من قمعه وبطشه اللذان ينالان كل من تسول له نفسه بمعارضته، ولعل أبرز هؤلاء المدعو السيد شبل ومن على شاكلته.

الصنف الآخر من الناصريين، هم الذين توقف الزمن عندهم عند عام 1970، وتحديدا في اللحظة التي فارق فيها عبدالناصر الحياة، توقف الزمن عندهم، ولم تعد عقولهم تعمل. هؤلاء يمكن توصيفه بأنهم مجرد حالة رومانسية انفعالية ناتجة عن سقوط المشروع بشكل مفاجئ دراماتيكي بموت زعيمه، لكنهم لا يعبرون عن أي موقف أيديولوجي يمكن الاستناد إليه في استشراف المستقبل.. حالة من الحنين للماضي وتبجيل مهيب لأول تجربة مكتملة للحكم الوطني تشهده مصر في العصر الحديث لا أكثر ولا أقل، أما أن تكون أيديولوجيا منظِّمة للعمل الكفاحي فهو أمر يجب على الناصريين أن يتجاوزوه كما وصفهم الصديق جلجامش لوكباندا في أفضل وصف.

هذا الصنف من الناصريين اشبه بقسم الأرشيف، قلما أن تجد عندهم حل لمشكلات الحاضر، بل كل ما يشغلهم الانكفاء على الماضي نحو تجربة عظيمة المجد والأخطاء (احيانا يكونوا محقين في دفاهم عنه خاصة ان الحملة على تجربة ناصر ممنهجة وقذرة).

الأزمة الحقيقية مع الناصريين بصنفيهما هو محاولاتهم المستمرة المستميتة للإقرار بأن تحرر مصر كان قاصرا فقط على شخص جمال عبد الناصر، وهو ما يمثل تقليل يصل للتحقير من حركة الشعب المصري وتصويره بالشعب الخانع كما يردد أعداء الشعب، كما أنه يعارض ويتنافى مع قوانين التطور الاجتماعي وسنة التاريخ بل وتاريخ التمرد في مصر. 

ومن يدري، لعل ثورة أو انقلاب 1952، قطع الطريق أمام ثورة شعبية حقيقية كانت في حاجة فقط إلى الوقت، فأوقف النمو الطبيعي والمتوقع لهذه الثورة عبر مجموعة الخطوات قتلت التطور الطبيعي للعمل العام والسياسي في مصر (حتى لو كان نظام يوليو 1952 مضطرا لهذه الخطوات بسبب الظرف التاريخي والتحديات المحيطة به وقتها)

لا يرى الناصريون أن هذه الخطوات دمرت مصر على المدى البعيد بل والمتوسط، فالتجربة كانت قاصرة على شخص عبدالناصر، وبالتالي، انتهت التجربة تماما بوفاته (وهذا مربط الفرس الذي يرفض كارهي عبدالناصر الاعتراف به، ألا وهو أن تجربة وحكم ناصر وثورة يوليو انتيها بموته) لينقض السادات بعد انقلابه في مايو 1971 على ثورة يوليو 1952، على كل مكتسبات وإنجازات تجربة ناصر، ويكرس الأخطاء والعيوب، ليدفع الشعب وحده ثمن أخطاء تجربة ناصر مضافا إليها تكريس الحكام من بعدها لها، بعد أن أزالوا بهمة وجهد جهيد كل مكتسب أرسته ثورة يوليو وتجربة جمال عبدالناصر.. ما يفتح الباب أمام تساؤل مهم: هل كان من الأفضل الانتظار حتى تكتمل الحركة الشعبية وتنفجر في ثورة لا تلقي البلد في حجر حفنة ضباط تسلموا زمام النهب والحكم والسلب والقتل من يد القصر الملكي واستبدلوا الإقطاع بإقطاع، أم أن حركة الجيش كانت حتمية تاريخية قبل أن تصل مصر لمزيد من الانهيار على يد طائش مثل فاروق؟

شخصيا، أميل إلى الافتراض الثاني، وهو أن ثورة يوليو كانت حتمية وضرورة في التاريخ المصري، تأخرها كان يعني مزيد من الانهيار والتأخر عن مواكبة العصر وقتها.

نفس الأمر ينطبق تماما على إنهاء الحكم العسكري حاليا، هو حتمية وضرورة لمصر، وكل يوم تظل مصر فيه تحت حكم العسكر يعني مزيد من الانهيار والتأخر عن مواكبة العصر، بل يعني تزايد الفرص لتحقق التحذير الذي نبه إليه العلامة الشهيد جمال حمدان، وهو تحول مصر إلى تعبير تاريخي بدلا من كونها تعبيرا جغرافيا.

* محرر مدونتي زقاق النت وكاتوبجي

زقاق النت

زقاق النت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.