عبدالرحمن كمال
إن العشرية السوداء التي عاشتها مصر، منذ 2011 وحتى اليوم، أثبتت لنا حالة الخواء الكبير التي تعانيها البلاد في كافة المجالات، وعلى رأسها تلك المتعلقة بالعمل العام، وهي الحالة التي ضربت كل الأطياف في مصر.
كل السياسيين المصريين من كافة التيارات، اتضح أنهم مجموعة من المرتزقة في أغلب الأحيان (منضالون مدفوعو الأجر) أو مجموعة من السذج البلهاء في احيان أخرى.
حتى نحن الشباب، كانت تجاربنا لا تقل فشلا عن الصورة العامة الكبيرة الحاصلة في مصر، ولا عجب ولا ريب في ذلك، فالشباب تتلمذوا وتربوا على أفكار وأساليب القيادات الفاشلة المذكورة آنفا، وإن كان ما يميز الشباب هو حميتهم وحماسهم الذي تأثر كثيرا بالصورة النمطية المفترضة لمصر بعد الربيع العربي والتصور الخاص بأحوالنا المعيشية والاجتماعية والسياسية، وسيطرة المثالية على هذه الصورة وهذا التصور، مثالية فيما يخص النظرة إلى القيادات السياسية التي شكلت الوعي السياسي والفكري لهؤلاء الشباب، ومثالية تخص نظرة التفاؤل لمستقبل البلاد ما بعد 11 فبراير 2011.
هذه الحمية وذاك الحماس المتوفر في الشباب بقوة، والذي ميزهم عن القيادات المتعطلة التي بلغت من عمرها السياسي أرذله ومع ذلك لم تقدم لنفسها أو لكياناتها وأحزابها أو لبلدها أي تحسن أو تطور، كان عاملا مهما وسببا كبيرا في حالة الإحباط المتفشية بين قطاع كبير من الشباب منذ 2012 وحتى اليوم، وهو الإحباط الذي سيظل جاثما على صدورنا ونفوسنا مادام النظام الحالي بشقيه (عسكر كامب ديفيد ومعارضته المعرضة المغرضة) ممسكا بزمام الأمور.
المؤسف أن هذه القيادات لم تعترف بعد بارتكابها أخطاء متعددة، تلك الأخطاء التي تجعل من هذه القيادات سببا رئيسا من المشكلة وتنفي مطلقا انها كانت في يوم ما جزءا من الحل.
الأشد أسفا أن تلك القيادات تستغل أي فرصة لتعاود الظهور، فهي تقتات على المتاجرة بقضايا الوطن، تستوي في ذلك مع عبدالفتاح السيسي وعسكره، ولو أتيحت لهم الفرصة مرة أخرى ليكونوا جزء من المشهد الحالي لوافقوا على الفور، بل أكاد أجزم أن أزمتهم مع النظام الحالي أنه أقصاهم من المشهد العبثي الحاصل، وكل ما يتمنوه أن يعودوا كجزء من هذا المشهد حتى لو بصورة أكثر هلامية وكرتونية من تلك التي كانوا عليها أيام مبارك.
أيضا، بعض تلك القيادات اعتذر عما أسماه خطأ في قراءة المشهد السياسي، لاسيما بعد تعرضه للسجن، وهو حر في مراجعاته، ولا أملك أن أزايد عليه، فتجربة السجن في ظل نظام قاتل دموي مثل نظام السيسي تبرر أي مراجعة فكرية تحصل من باب الحرص والحذر والاحتياط، وإن كان النظام نفسه لن يتوقف عن سجن المصريين لعدة اسباب أهمها احتقار الجيش وقياداته للشعب ونظرتهم الدونية للمدنيين وكراهية وازدراء السيسي نفسه (كرمز للمؤسسة) للعمل السياسي والسياسيين بشكل عام، كما أن القمع والاعتقالات هي الورقة الرابحة الوحيدة التي يملكها النظام والحركة الوحيدة التي لا يجيد سواها.
لكن اللافت في اعتذار بعض الذين تصدروا المشهد السياسي، أنه اعتذار يتعلق فقط بما يطلقون عليه "قراءة المشهد السياسي"، بشكل يوحي بأنهم كانوا بالفعل يمارسون السياسة ويقدمون التحليل والقراءة والاستدلال، رغم أنهم في حقيقة الأمر كانوا مجرد أبواق تنعق بما لا تسمع في أحيان كثيرة، ولا يمؤنون بكل ما يقولون في العلن، خاصة أنهم في السر كانوا ينطقون بما يخالف ذلك!.
كما أن الاعتذار على ما يبدو أنه موجهة إلى عبدالفتاح السيسي فقط لا غير، لا إلى البلاد التي دخلت في أتون المجهول بسبب عدم إخلاصهم أو غباءهم، هو في الحقيقة اعتذار على طريقة: "مش هاعمل كده تاني" يقدمونه إلى إلى الجلاد الممسك بـ"الفلكة" حتى لا "يمدهم" مجددا.
لم يقدم هؤلاء أي اعتذار إلى الشباب الذين آمنوا بهم وبأفكارهم وصدقوهم وضحوا من أجل تلك الأفكار. بعضهم ضحى بحياته والبعض بعمره والبعض الثالث بطموحاته ومستقبله، ورهنوا أنفسهم من أجل تحقيق ما تلفظ به تلك القيادات من أفكار وأطروحات وبرامج، ليس لسبب سوى الاعتقاد بإخلاص القيادات في السعي من أجل إنقاذ البلاد.
لم يكن يعلم هؤلاء الشباب أنهم مجرد وقود يُستخدم من قبل قيادات متعطلة متعفنة فاشلة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، ليست حتى مكاسب حزبية ضيقة، بل مكاسب تعود فقط على تلك القيادات وأبنائهم الذين فشلت تلك القيادات في جرهم إلى عالم السياسة، أو ربما آثرت أن تبعدهم عنها حتى لا يقعوا فريسة لقيادات مماثلة تستغلهم كما فعلوا هم مع نظرائهم من الشباب.
لم يعتذر مثلا ذاك القيادي الإسلامي الذي خرج من السجن بعد 7 سنوات عجاف بداخله، إلى الشباب الذين دمر مستقبلهم، ولا إلى أهالي الشباب الذين قضوا نحبهم في سبيل ما يتغنى به ذلك القيادي، أو ما كان يتغنى به قبل سجنه، رغم أن نفس القيادي كان يفرح كثيرا بخبر وفاة أو إصابة أو اعتقال أي من شباب الحزب الذي يترأسه، بحجة أن الضحية من حزبه قليل العدد تكافي 1000 ضحية من جماعة الإخوان وفيرة العدد!!
لم يعتذر إلى أهالي الضحايا الذين دفعوا ثمن إيمان أولادهم بذلك القيادي الذي لا يزال كثيرون مُغررين مخدوعين فيه، ويرونه رمزا للنضال، وهو في الحقيقة لا يفرق كثيرا عن مبارك والسيسي، فقد ارتكب كل جرائمهما في نطاق حزبه الضيق من توريث وفساد وإفساد واستغلال وتورط في قتل وسجن.
لم يعتذر مثلا هذا القيادي عن مستقبل الشباب الذين كانوا يعملون في صحيفة حزبه (وأنا واحد منهم) وعن حرصه الشديد على التدمير الممنهج لمستقبلهم، ورغبته المجنونة في حرمانهم من أبسط حقوقهم العملية المتمثلة في رواتب آدمية وحقهم في التأمين عليهم وإلحاقهم ببر الأمان الصحفي المتمثل في "عضوية النقابة".
ألا يعد ذلك تآمرا وإهدارا لحقوق العمال؟! ما الفارق إذن بينه وبين طريقة إدارة الاقتصاد المصري اتباعا لأوامر صندوق النقد التي ينفذها السيسي وتستهدف القضاء على كل سبل أمان المواطن المصري والتخلص من العمال؟! ألا يعني ذلك أن ما يفعله السيسي على نطاق واسع فعله ذلك القيادي في نطاق حزبه وصحيفته الضيق: أكل حقوق العمال بالباطل؟!
حكايتي مع ذلك القيادي الإسلامي لو دققنا النظر سنجدها متكررة بشكل أو بآخر مع شباب آخرين وقيادات آخرين في تيارات وأحزاب أخرى، فالعقلية الفاسدة المتعطلة ليست حكرا على قيادات الإسلاميين، بل هي المسيطرة على عقليات بلد بأكمله من أقصى يمينه العسكري إلى أقصى يساره.
أفلا يستدعي ذلك منا نحن الشباب الذين تضرروا من عقليات هؤلاء الفاشلين الفاسدين، أن نبوح بتجاربنا ونكشف الزيف عن هؤلاء حتى لا ينخدع فيهم غيرنا؟ ألا يجب علينا أن نزيح الغشاوة عن أعين المهتمين بالعمل العام فيما يخص نظرتهم التقديسية لهؤلاء الفشلة الفسدة؟
إن الأمر وإن بدا شخصيا للوهلة الأولى (وهو في حقيقته الجزئية كذلك) لكنه ينبغي أن يكون جزءا من مراجعاتنا نحن جيل الشباب أكثر من تضرر من العشرية السوداء في مصر، تضررنا بشكل شخصي وعملي وسياسي واجتماعي واقتصادي. إن الهدف من الحديث والكتابة عن تجاربنا نحن الشباب أن نقدم رواياتنا للأحداث من كافة الجوانب ومن مختلف التيارات، لنعرف إلى مدى كانت تلك القيادات حريصة على مستقبل البلاد وإلى أي مدى كانت متلهفة على تحقيق مكاسب شخصية.
إن سرد التفاصيل التي واجهناها خلال فترة التحاقنا بالعمل العام خاصة في الفترة ما بين (2011- 2015) ربما تكون جزءا مهما مستقبلا من تلافي أخطاء الماضي، خاصة أن العمل السياسي في مصر تم خصيه منذ عقود، وهو ما أفرز لنا قيادات مشوهة مشوشة لا تملك رؤية ولا استعدادا، وربما لو كان العمل السياسي في مصر صار في إطاره السليم بما يقتضي زيادة الخبرات والتجارب، ربما لما وصلنا لـ 30 عاما من حكم المخلوع مبارك، وربما لو كانت لدينا (بخاصة الشباب) الخبرات المتراكمة المتوارثة من الأجيال السابقة فيما يخص العمل العام، ربما لنجحنا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وما انطلت علينا أكاذيب وخدع القيادات السياسية والعسكرية بعد 2011.
إن الدعوة للكتابة هي مجرد "صيحة في واد.. إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالأوتاد" كما قال الكواكبي في مطلع كتابه "طبائع الاستبداد". فعلى قدر بساطة الفكرة، إلا أن مثل هذه الشهادات لو صارت ظاهرة مألوفة، ولاقت نجاحا مستقبلا، ربما تكون جزءا من مشوار تخليص مصر من الجاثوم الحالي، فهل من مجيب؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق