عبدالرحمن كمال
احترت كثيرا في اختيار اسم أطلقه على الحلقات التي سأنشرها تباعا على حسابي في فيسبوك ومدونتيّ "كاتوبجي وزقاق النت" وموسوعة المعرفة.. وأستعرض خلالها وقائع تجربتي خلال العشرية السوداء (2011-2021) التي عاشتها مصر ويبدو أنها ستمتد لتصل إلى عقود سوداء.
وبحكم نشأتي (سياسيا واجتماعيا) في كنف بيت وحزب إسلاميين.. فكانت وجهتي الأولى هي القرآن الكريم، فبحثت فيه عن جملة يمكن لها أن تلخص تلك التجربة وتعبر عن فحواها، ببلاغة وإيجاز.. فوقع اختياري على قوله تعالى: "فتلك بيوتهم خاوية".
وفي تفسير الطبري للجملة البليغة التي جاءت في سورة النمل: {يعني تعالى ذكره بقوله: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً ) فتلك مساكنهم خاوية خالية منهم، ليس فيها منهم أحد، قد أهلكهم الله فأبادهم (بِمَا ظَلَمُوا)}.. ولكم يلخص هذا التعبير القرآني تجربتي السياسية.. تجربتي مع الحزب الذي انضممت لها مدفوعا بحماس الشباب الطائش ومثالية 25 يناير البلهاء، فانتهى بنا الحال بحالة مرعبة من الخواء: إن على مستوى الحزب الذي لم يعد له وجود وسيكون مصيره نفس مصير حركة مصر الفتاة التي كان الحزب متدادا تاريخيا لها، وإن على مستوى البلد الذي يتجه إلى الهاوية بسرعة صاروخية جنونية تماما كما حذر الشهيد جمال حمدان.
اخترت هذا التعبير البليغ ليكون عنوانا لحلقات تدوين الماضي التي تحدث عنها من قبل (https://bit.ly/2ZKBDyS) ودعوت الشباب على وجه الخصوص إلى الحديث عن تجاربهم السياسية خلال تلك العشرية، لنكشف ونتدارس الأسباب التي انتهت بنا إلى هذا المستنقع.. حيث باتت مصر مهددة بأن تتحول إلى تعبير تاريخي بدلا من كونها تعبيرا جغرافيا كما حذر العلامة الشهيد جمال حمدان (وهي نفسها حالة الخواء الناتجة عن الظلم التي أشارت إليها الآية الكريمة كما ذكرنا آنفا).. فإلى الحلقة الأولى
--------
أكاد أجزم أن أسوأ ما مر بي منذ يوم ولادتي وإلى يوم مماتي، هو أنني كنت في يوم من الأيام عضوا في حزب إسلامي (حزب العمل سابقا- الاستقلال لاحقا).. حزب فاشل ككل المنتمين والمنتسبين له، وإحقاقا للحق- كأغلبية دكاكين الأحزاب السياسية في مصر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. هي مجرد "سبوبة" لا أحزاب.
على المستوى التنظيمي، الحزب كان فاشلا بامتياز، بداية من طريقة إدارته، وحتى تراتبية الأعضاء والقيادات به.. الأعضاء كانوا مجموعة من البسطاء -وهو أرق توصيف، لا أدق- الذين لا يمكن بأي حال التعويل عليهم في تشكيل وعي سياسي، ناهيك عن تكوين جبهة تقود مشروعا وطنيا تنمويا.
أعضاء الحزب كانوا من البسطاء "سياسيا وفكريا وثقافيا".. البساطة هنا بمعنى الفراغ والخواء (بل وفي بعض الحالات يجوز أن تقلب الواو راء).
بل إن هذا الفراغ مستشرٍ حتى بين أولئك الذي يراهم البسطاء ويرون أنفسهم قيادات للحزب.. لدرجة أنه في إحدى المرات غاب رئيس الحزب خارج مصر، وتزامن مع سفره وقوع بعض الأحداث الخطيرة (أحداث محمد محمود التي وقعت في عهد الإخوان) و"احتاس" قيادات الحزب لأنهم لم يكونوا قادرين على كتابة بيان يوضح موقف الحزب السياسي من الأحداث.. لا أعلم سبب الأزمة: هل هو عدم قدرتهم على اتخاذ موقف عاجل اقتضه الظروف الطارئة (وهو ما يعني فقدانهم مؤهلات العمل السياسي ناهيك عن قيادة حزب)، أم خوفهم من اتخاذ موقف لا يرضى عنه رئيس الحزب الديكتاتور (وهو ما يعني أيضا كفرهم بالديموقراطية والشورى التي تلوكها ألسنتهم ليل نهار).. المهم أنهم حتى صياغة بيان سياسي يمسك العصا من منتصفها فشلوا فيه.. وطلبوا مني صياغته (هذه الواقعة لها تفاصيل مثيرة نحكيها في مرة مقبلة).
هذا بالنسبة للقيادات، أما الأعضاء فحدث ولا حرج، كانت زيارتهم للحزب في المؤتمرات والمناسبات الخاصة به، مجرد زيارات للترفيه والسياحة (على طريقة أنا رايح مصر أحضر مؤتمر للحزب، لكن أحدا لم يعرف قبل سفره فيما ذهابه، ولم يعرف بعد عودته ما استقر عليه الحزب). هم في الحقيقة صورة مصغرة من أعضاء مجلس نواب السيسي.. نفس الفراغ ونفس السطحية.. ولا أبالغ إن قلت بإن رئيس الحزب كان سعيدا جدا بعقلية هؤلاء الأعضاء وفراغهم الفكري والثقافي، تماما مثل السيسي سعادة السيسي بفراغ وجهل أعضاء ونخب نظامه.
ولعل ما يؤكد هذا التصور هو حرص رئيس الحزب على إقصاء بعض الأسماء صاحبة الخبرة والتجارب والثقافة من حضور ندوات ومؤتمرات الحزب، بل إنه لما قرر إرسال وفد من قيادات الحزب إلى إيران (وما أدراك ما إيران بالنسبة للحزب ورئيسه) وبدلا من إرسال أطباء ومهندسين ومثقفين ليكونوا واجهة مشرفة للحزب (الحزب كان به أساتذة جامعات وحملة ماجستير ودكتوراة وقراء جيدين ومدركين للواقع السياسي في المنطقة)، أرسل رئيس الحزب (الحاكم بأمره) مجموعة من هؤلاء البسطاء (الذين كان همهم الاستمتاع بالزيارة والفسحة وأكل المكسرات)، وهي الزيارة التي فضحت وعرّت الحزب أمام الإيرانيين (تفاصيل الزيارة مثيرة أيضا وسنحكيها في حلقة لاحقة) وعلم الإيرانيون أن أموالهم التي يرسلونها لتمويل الحزب تذهب سدى (لا مشكلة عندي في تلقيك تمويلا من إيران، لكن لا تزايد على أحد ممن يتلقى تمويلات من غيرك بعد الآن، ولا تدعي دفاعك عن قضية الاستقلال الوطني، فكما قال أمل دنقل: من يمسك بالعملة يمسك بالوجهين).
هذا ما يخص الفشل التنظيمي، ويكفي الإشارة إلى أن الحزب إبان تنحي مبارك بأسابيع، كان معه أكثر من 60 شابا مخلصا متحمسا جاؤوا للحزب مدفوعين بما سمعوه عن سمعته ونضاله القديم ضد مبارك، لكنهم لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، وانصرفوا غير آسفين عن الحزب، ولم يكلف الحزب ورئيسه وأمين تنظيمه ومكتبه السياسي (كانت كل هذه المناصب موجودة بالفعل!!) أنفسهم شيئا للبحث في مسألة انصراف الشباب عن الحزب (رغم جاذبية البرنامج النظري المكتوب للحزب، والذي أجزم أن 95% من أعضاء الحزب لم يقرؤوا منه صفحة واحدة) لم يبحثوا السر وراء عزوف الشباب عن الانضواء تحت لواء الحزب الذي كان له دورا كبيرا في التمهيد والتحضير لثورة يناير، وكأن الحزب ورئيسه وقياداته ارتاحوا لهذا العزوف!!
أوكلت مهمة التنظيم في الحزب إلى غير أهلها، فكان طبيعيا، بل وكان لزاما أن يتم تفريغ الحزب، لدرجة أن الرجل الثاني في الحزب (فك الله أسره) فشل في إقناع نجلته بالعودة للحزب، بعد أن غادرته لاعنة عازمة على عدم العودة.. بل إن كل قيادات الحزب بلا استثناء (وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة) فشلوا في إقناع أبنائهم بالانضمام للحزب (لا أدري هل فشلوا فعلا؟ أم أنهم لم يريدوا لأبنائهم أن يُستخدموا كوقود ثم يتم التخلص منهم بعد تدمير مستقبلهم.. تماما كما فعل الحزب مع كل الشباب الذين صدقوه).. فكيف تصور هؤلاء الموهومين قدرتهم على إقناع الآخرين بالانضمام؟!
في المرة المقبلة نتحدث عن مظاهر الفشل السياسي.. وهي تحتاج مجلدات.. وإن كنت سأركز على الوقائع الخاصة برئيس الحزب لكونه الوحيد غير المعتقل، وبالتالي يملك تكذيبي إن شاء وله القدرة في الرد (وأن كنت واثق أنه لن يرد حتى لو قرأ تلك السطور).. في حين باقي القيادات والأعضاء معتقلين في سجون السيسي، وربما نتحدث عنهم لاحقا عندما يتحررون، وإن كانوا في الحقيقة ليس لهم من الأمر شيء.. والأمر كله بيد الرئيس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق