أحدث الموضوعات
recent

من طرب صباح فخري إلى "تراب" ويجز.. تمرد على عصر السرعة أم التراث؟


عبدالرحمن كمال

قبل أيام، رحل عالَمٌ عن عالَمِنا.. رحل صناجة العرب وأسطورة الطرب الفنان الكبير صباح فخري، أعظم من غنى القدود والموشحات والمواويل العربية، وأحد أهم أعمدة الموسيقى العربية على مدار تاريخها الممتد لقرون.

رحيل صباح فخري تزامن مع (أو جاء بعد فترة وجيزة من) انتشار صورة تضم جمهورا شاسعا جدا في إحدى حفلات المطرب المصري "ويجز".. الصورة أثارت الجدل لأنها كشفت أن جمهور ويجز وفنه فاقا التوقعات!! 

وكالعادة المتأصلة فينا بسبب الاستقطاب الحاد، وبسبب التفكير العاطفي المتجذر بنا، كانت الخناقة بسبب الصورة، خناقة حول: هل يستحق ويجز وما يقدمه من فن (يُطلق عليه التِراب) هذه الجماهيرية؟ هل يسطر رفاق ويجز تاريخا جديدا في الفن؟


خناقة جمهور ويجز ورفاقه مع الطرف الآخر الأوسع تنوعا (بعضهم كاره لهذا النوع من الفن ولا يرونه فنا من الأساس، وبعضهم رافض له متمسك بالتراث، والبعض الثالث لا يفهم أساسا ما يقوله ويجز ورفاقه، وآخرون لا يرون ما يقدمه متجاوبا مع حاجتهم النفسية التي يجب أن يلبيها الفن) هي خناقة متكررة في التاريخ البشري تصاحب كل ما هو جديد.. جيدا كان أو سيئا.

لست هنا بصدد تقييم ما يقدمه ويجز ورفاقه من الناحية الفنية، ولست أيضا هنا من أجل الحكم على ذوق جمهوره، أو الحجر عليهم وانتقادهم بسبب ذوقهم الفني وعشقهم لمطربهم المفضل، بقدر ما أنا هنا للحديث عن شريحة من شرائح الطرف الآخر.. ذلك الجمهور الذي لا يستمع إلى ويجز، ناهيك عن الاستمتاع بما يقدمه.. لا يستمع إليه ليس لموقف مسبق من فنه أو من كل لون جديد، بل الأمر له أسباب كثيرة أعتقد أنه يجب الحديث عنها.. تلك الشريحة من الجمهور التي لن تنضم إلى جمهور ويجز مهما هيمن وسيطر هو ورفاقه وما يقدمونه.

في رأيي، أظن أن هناك قطاعا لن ينضم أبدا إلى جمهور ويجز مهما ترسخ هذا النوع من الفن وفرض نفسه على الذوق العام، ألا وهو ذلك المتمسك باللغة العربية المتيم المتشبث بها كالصغير بكُم أمه، العاشق للطرب والآت الموسيقى العربية التي لا تعزف على أوتارها بقدر ما تعزف على قلوبهم.

لا أظن مطلقا أن جمهور صباح فخري وأم كلثوم مثلا (الجمهور مقصود بهم هنا أولئك "السميعة" الذين يهيمون وينعزلون عند سماع مقطع للعظيمين صباح فخري وأم كلثوم مثلا، ويبحثون عن السكينة والعزلة والهدوء والوحدة بصوتيهما، وليس الذين يسمعونهما عرضا) لا أظن هذه الفئة يمكن أن تصبح يوما من جمهور ويجز ورفاقه.. هذه الفئة غير قادرة أصلا على سماع الكلمات التي يغنيها ويجز، ناهيك عن فهمها والتكيف مع أسلوبه الغنائي السريع الذي يتماشى أكثر مع السرعة التي فرضتها الرأسمالية كنمط على حياتنا في كل المناحي.

هذه الفئة سكينتها وراحتها وعزلتها تكمن في الصبر والانتظار الذان يفرضهما نمط أغاني أم كلثوم وصباح فخري عليهما.. يكفي مثلا أن تطالع تعليقات جمهور صباح فخري على أغنيه على يوتيوب.. أحدهم كان منبهرا من أداء صباح فخري، فعلق قائلا: "صباح فخري  الفنان الوحيد في العالم يغني أغنية متكونة من كلمتين فقط  ولمدة ٢٠ دقيقة ثم يطلبوها وهكذا يمكنه يغني لساعات لأغنيه متكونة من كلمتين وتسمع الناس وتطرب لها لمدة٤٥ سنة". 



إن جمهور بهذا الذوق وهذا المزاج لا يقدر أبدا على الاستماع بأغاني ويجز ورفاقه، الاستماع لا الاستمتاع.. جمهور بهذا المزاج يبحث عن مهرب من طاحونة السرعة التي فرضتها عليه الرأسمالية، بفن يرسخ ويؤصل للصبر والتمهل والهدوء. فالأمر أكبر من كونه ذوقا غنائيا، بل مهربا للبحث عن حاجة نفسية واجتماعية للهدوء؛ حتى لا يتمكن منهم الجنون ويتملكهم اكتئاب سرعة الرأسمالية.. لا أبالغ إن قلت أن نمط أغاني ويجز ورفاقه يصيبهم بالتوتر.

أيضا، واحد من أسباب عشق جمهور صباح فخري لطربه هو أنه فن مرتبط أكثر بالهوية العربية، وأذكر أنه في إحدى الجلسات مع صديقي لي سألني عن سر عشقي له، فأجبته بأنه عشق نابع من عشق للغة العربية، فالاستماع لطرب صباح فخري يجبرك على إتقان لغتك العربية لتفهم وتحس جيدا ما يقول، وكل ما يقوي لغتي العربية أنا أعشقه.

أزعم أنني واحدا من هذا النوع من الجمهور، ولكن هذا لا يعني أني أكن العداء لويجز ورفاقه، فعدم فهمي أو استمتاعي بما يقدمه لا ينفي أن له جمهور كبير، وشعبية تأخذ في الانتشار.. كل الحكاية أن ما يقدمه ويجز ورفاقه لا يجد في نفسي صدى ومكانة ومكانا، مثلما يجد فن وطرب صباح فخري، أو مثل تلك المكانة التي يجدها فن ويجز في نفوس جمهوره.

وفي حين يحسب لطرب صباح فخري أنه باق حتى اللحظة، رغم تشبثه بأسلوبه المعادي تماما لمتطلبات العصر التي فرضتها الرأسمالية علينا، فإن التعليق المشار إليه آنفا يطرح سؤالا ملحا، وهو سؤال من باب فني بحت، ألا وهو: 

هل سيعيش ما يقدمه ويجز نفس القدر الذي عاشه وسيعيشه فن وطرب صباح فخري؟ كم من فنان ظن أنه استحدث نوعا جديدا من الفن منذ سنوات بعيدة وسيعيش لأعوام مقبلة، وكان له جمهورا كبيرا يظن أنه سيهيمن على الذوق العام مستقبلا، لكن سرعان ما كان مقتله ونهايته بنفس الأداة التي كانت سببا في انتشاره.. السرعة المطردة والحداثة بشكل جنوني، فانتهى ذاك النوع من الفن على يد فن آخر كان أكثر سرعة وتكيف مع متطلبات العصر منه؟ 

زقاق النت

زقاق النت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.