أحدث الموضوعات
recent

من ليبيا إلى أوكرانيا.. كيف تقاربت أوازن تركيا وروسيا الجيوسياسية

* أشرف الصباغ

تركيا عضو حلف الناتو واخدة ضوء أخضر عشان تلعب دور بين الدولتين المتنازعتين روسيا وأوكرانيا. وأصلا روسيا وتركيا أوزانهم ابتدت تتقارب جيوسياسيا، بل مساحة تركيا تكاد تكون أوسع من مساحة روسيا رغم الفارق في الجغرافيا وفي الإمكانيات العسكرية وفي بعض قطاعات الاقتصاد. 

روسيا وتركيا في سوريا، وروسيا وتركيا في ليبيا، وروسيا وتركيا في ما وراء القوقاز (في أذربيجان وأرمينيا) وفي بقية العالم التركي (من وجهة نظر أنقرة) أو في آسيا الوسطى (من وجهة نظر موسكو)... حصلت حاجة جيوسياسية وتاريخية قلصت المسافة بين روسيا وتركيا من حيث القدرة على المناورة لغاية ما بقوا من أوزان متقاربة، أو على الأقل الولايات المتحدة (أكبر قوة عسكرية واقتصادية وعلمية وتقنية على وجه الأرض إلى الآن) شايفاهم كده، وبتدفع في هذا الاتجاه إمعانا في التقليل من شأن روسيا والتقليل من قدراتها ولجمها.. 

غزو روسيا للأراضي الأوكرانية قلل من شأن روسيا ومن قيمتها. واعتقد إن موسكو نفسها هاتدرك ده لكن في وقت متأخر قليلا عندما تفوق وتنتبه وتستيقظ من الحماسة والغضب والاندفاع وتحصي ما صنعه الغباء والاندفاع والاستهتار. غزو روسيا لأوكرانيا مش قلل من قيمة روسيا وشأنها فقط، وإنما كمان خلا الناس يفقدوا فيها الثقة مهما أظهروا لها من ابتسامات ودعم وكلام حلو وتصفيق وإشادة. وخلاهم يبصوا لها كقوة مش إمبراطورية بس وإنما كمان إمبريالية لا تختلف عن الولايات المتحدة وبقية الدول الاستعمارية التقليدية. لكن روسيا مختلفة عنها في قوة البطش والقمع و"الدهوسة" واللي يحصل يحصل.. طبعا الكلام دا كان ممكن يمشي لغاية سبعينيات القرن العشرين، إنما في عشرينيات القرن الواحد والعشرين هايبقى الأمر غريب شوية. وهو دا اللي حاصل دلوقت... 

غزو أوكرانيا ليس نزهة. وحسابات موسكو كانت منذ البداية خاطئة سياسيا وعسكريا وتاريخيا. سنختلف على ذلك، لكن التاريخ نفسه (التاريخ القريب جدا) سيتحدث مثلما تحدث بعد أفغانستان. أتذكر أن نفس المسوغات والتبريرات كانت لدى كل مشجعي الاتحاد السوفيتي. كانوا يبررون كلا شيء باستخدام الهنود الحمر وفيتنام وبداية الخلق وسفر التكوين. كانوا يستخدمون كل الوسائل لتبرير الغزو السوفيتي لأفغانستان. ولكن لم يصح إلا الصحيح. 

يبدو أن الدودة في أصل الشجرة، وأن المرض عضَّال ومزمن ومرعب. يجري تكرار نفس الأخطاء ونفس التبريرات ونطمح جميعا ونطمع أيضا في نتائج مختلفة!!!

الآن، روسيا تكاد تتساوى مع تركيا. وهناك من يدفع في هذا الاتجاه تمهيدا لتأسيس أمر واقع آخر جديد يمكن تفجير التناقضات من خلاله. وإذا كانت هيكلية الأمن الدولي وبنيته استقرتا بعد هزيمة الاتحاد السوفيتي وتفككه، فإن المنتصر في الحرب البارده شكَّل هيكلية أمنية عالمية جديدة ببنية تتناسب مع حجمه وإمكانياته. ولكن روسيا بوتين الذي جمع بعض التراكمات المالية المتواضعة أراد تغيير هذه الهيكلية ووضع نفسه شريكا متكافئا مع بقية الدول التي تسبقه في كل شيء ضمن السياق العام للرأسمالية التي تعتبر روسيا جزءا منها، بل الجزء المتوحش والبدائي. ولكن السحر انقلب على الساحر، وبدأت تلوح في الأفق ملامح تغيير ليس هيكلية الأمن الدولي ولكن بنيته الأساسية وهذا هو الخطر. 

لقد زادت ألمانيا واليابان ميزانيات الدفاع بأحجام مذهلة وغير مسبوقة في التاريخ. وبدأت طوكيو وبرلين تتحدثان بشأن الجيوش والسلاح ونشر الأسلحة النووية. بينما فنلندا والسويد بدأتا بالحديث عن الانضمام إلى حلف الناتو. قد يتأخر كل ذلك بعض الوقت إلى أن تجري هندسة هذه البنية الأمنية العالمية الجديدة، ويتم تأسيس أمر واقع جديد، لنجد أمامنا بنية مختلفة تماما وضاربة ومتوحشة للغاية. أما روسيا فستظل لوقت طويل تعاني من آثار ليس فقط خطئها التاريخي والاستراتيجي بغزو أوكرانيا، ولكن من حصار الغرب، ومن حزام الكراهية الذي يحيط بها في بولندا والتشيك والمجر وسلوفاكيا وأوكرانيا ومولدوفا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ودول آسيا الوسطى..

الكلام هنا ليس عن روسيا بوشكين وليرمونتوف وتورجينيف وجونتشاروف ودوستويفسكي وتولستوي وجوركي وسولجينيتسين ومارينا تسفتايفا وآنَّا أخماتوفا ومايا بليسيتسكايا ورخمانينوف وتشيخوف وتشايكوفسكي، وإنما عن روسيا الباطشة والقامعة والغازية والمستبدة. فروسيا الباطشة والمستبدة عدوة كل هؤلاء وعدوة الجمال والخيال والإبداع، وعدوة نفسها...

---

* باحث في الشئون الروسية

زقاق النت

زقاق النت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.