* أفيرام بليش - معاريف
كانت الحرب الإقليمية التي نشهدها منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر سيناريو حذّر منه محللون إيرانيون منذ زمن بعيد، إذ طُلب من قائد حركة "حماس"، يحيى السنوار، أن ينتظر قبل تنفيذ أي عملية عسكرية كبيرة، وذلك نظراً إلى الوقت الذي تحتاج إليه إيران وحلفاؤها للاستعداد لتنفيذها.
لكن السنوار اختار الشروع في تنفيذ عملية "طوفان الأقصى" بحجة أنها عملية فلسطينية، الأمر الذي "أجبر" الإيرانيين على محاولة تحقيق توازن بين مسألتَي "الدفاع عن فلسطين" و"منع التصعيد". ومن جهتها، بدأت إسرائيل "حرب إبادة"، الأمر الذي دفع الإيرانيين إلى استنتاج أن التورط بصورة أعمق في الحرب سيكون خطأً، وأنه يجب محاولة وقفها في ظل النتائج الكارثية على "حماس" وحزب الله. وقد تم نقل هذه الرسالة إلى محور المقاومة، لكن المشكلة، كما يتم تحليلها في طهران، تكمن في أن إسرائيل من جهتها لم تتوقف. وكما يحتاج حزب الله إلى إعادة إعمار، فإن الإيرانيين بدورهم في حاجة إلى أربعة أعوام من التهدئة لإعادة البناء والتعافي، ليس فقط عسكرياً، بل أيضاً لاستعادة السردية المتضررة وتطوير سردية جديدة قائمة على "إشراق الانتصار من الإخفاق".
بعد الضربة القاسية التي تعرض لها حزب الله - الأداة الرئيسية لطهران في المواجهة مع إسرائيل - جاء الآن انهيار النظام في سورية، وقد حدث ذلك كلّه خلال عشرة أيام. وفي الواقع، وقفت إيران على الهامش، أو كما ورد في صحيفة "نيويورك تايمز": "هناك فجوة بين التصريحات الإيرانية والتوجيهات الميدانية القاضية بعدم القتال، بالإضافة إلى انسحاب الميليشيات وبدء حوار مع المعارضة السورية لضمان خروج القوات الإيرانية بسلام، والمحافظة على الأماكن الشيعية المقدسة، وذلك في مقابل عدم تورط إيران في الأحداث."
كل هذه التطورات دفعت النظام الإيراني إلى استنتاج ضرورة صوغ سردية جديدة لتبرير عدم دفاعه عن نظام بذل جهده في السابق للمحافظة عليه؛ إذ صرفت إيران، وفق تقارير عديدة، أكثر من 50 مليار دولار على مدار عقد من الزمن. ويشمل الجمهور المستهدف بالسردية الجديدة دول محور المقاومة، والدول السنية المعتدلة، والقوى العظمى، ودول العالم، بما في ذلك إسرائيل.
وما لا يقل أهمية هنا بالنسبة إلى علي خامنئي هو الساحة الداخلية؛ فهو في حاجة إلى تقديم تفسيرات إلى الجيل "الرابع من الثورة"، إذ إن شباباً راديكاليين سعوا للذهاب إلى سورية لدعم نظام الأسد بهدف حماية الأماكن المقدسة للشيعة.
وتعمل آلة الدعاية الإيرانية بسرعة على صوغ سردية تبرر القرار المدروس بعدم التدخل في سورية، وتتمثل الخطوة الأولى في اتهام النظام في سورية بأنه "لم يطلق رصاصة واحدة ضد النظام الصهيوني طوال نصف قرن"، ومن هنا، تواصل طهران ادعاء أن "تحالفه مع الغرب وقبوله حوافز اقتصادية من الإمارات العربية المتحدة بشرط أن ينفصل عن محور المقاومة أدى في النهاية إلى الإضرار بإيران ومحور المقاومة."
وهناك خطوة أُخرى تتمثل في تصوير الرئيس السوري بصفته شخصاً لم يستجب لتوصيات النظام الإيراني بشأن قضايا متعددة، تزعم إيران أنها حاولت المساعدة فيها، كـ"الديمقراطية"، و"توفيره الدعم لحكومته بسبب الوضع الاقتصادي الصعب"، و"ضعف جيشه وفساد مؤسسات الدولة"، و"معاناة الشعب السوري بعد خمسة عقود من الديكتاتورية."
وقال علي مطهري، نائب رئيس البرلمان الإيراني السابق، في ختام السردية: "لقد امتنعت إيران من مواجهة جزء كبير من الشعب السوري الذي دعم معارضي الأسد، ومنعت نشوب حرب بين السنّة والشيعة وسفك دماء المسلمين، وهو أمر كان سيخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل."
ومع ذلك، فمن المهم تأكيد أن إيران باتت تدرك أن حقيقتها قد انكشفت أمام الجميع؛ فهي، عسكرياً، لم يكن في إمكانها تقديم الدعم إلى النظام في سورية في وضعها الحالي، بعد مقتل كبار قادة "الحرس الثوري" في سورية في هجمات دقيقة نُسبت إلى إسرائيل. كما افتقرت إيران إلى القدرة على إرسال تعزيزات من جانب حزب الله، وتعرضت طائراتها لحظر الوصول بفعل التدخل الإسرائيلي، بالإضافة إلى استهداف الميليشيات العراقية من جانب الأميركيين.
وعلى صعيد الوعي أيضاً، وهو صعيد لا يقل أهمية في الشرق الأوسط، حيث بذلت إيران جهدها لترسيم صورة "محور المقاومة"، فقد وصلت طهران إلى انهيار سريع بعد تنفيذ عملية تفجير أجهزة الاستدعاء، وتصفيتها لقيادة التنظيم واستبدالهم بخلفاء.
ووفقاً لما أكدته شخصية معروفة على شبكات التواصل الاجتماعي على علاقة بـ "الحرس الثوري"، "ستكون هذه هي الفترة الأصعب في تاريخ الجمهورية الإسلامية."
"في الواقع، مع خروج حزب الله والنظام الإيراني من سورية، بات أفق مشروع المقاومة مسدوداً في هذه اللحظة. وإيران مضطرة إلى إعادة النظر بالكامل في عقيدتها الدفاعية. هذه هي نهاية الطريق"، وفي الوقت نفسه، تعمل طهران على التحول نحو خطاب جديد تجاه المتمردين باعتبارهم هدفاً جديداً بالوكالة؛ إذ تحوّل الخطاب تجاههم من وصفهم بـ "الإرهابيين" إلى "المعارضين" أو "المعارضين الإسلاميين"، وكل ذلك بهدف المحافظة على المحور الممتد إلى حزب الله لنقْل الأسلحة، وهو أمر يعتقد المحللون في إيران أنه "ليس مستحيلا.ً"
ويرى علي مطهري، نائب رئيس البرلمان الإيراني السابق، أنه "يجب إجراء حوار ومحاولة التقريب بين النواة المركزية لمعارضي الأسد المنتمين إلى الإخوان المسلمين والمعارضين للنظام الصهيوني." ويضيف: "صحيح أنه من الممكن أنهم معادون للشيعة"، لكنه يعزو ذلك إلى تصرفات بعض الشيعة المتطرفين، بحسب تعبيره.
في إطار محاولة إيجاد قناة حوار مع "هيئة تحرير الشام"، يستذكر الإيرانيون تجربتهم مع طالبان و"التعايش" الذي يدّعون أنه قائم بينهم، كما يعملون على تقليل مسؤوليتهم عن الأضرار التي لحقت بالمدنيين السوريين. هؤلاء، طبعاً، يستمرون في تضليل الجمهور. وفي هذا السياق، نستذكر تصريح وزير الخارجية الإيراني في 8 كانون الأول/ديسمبر، حين قال: "كانت القوات الإيرانية موجودة في سورية لمحاربة ’داعش‘، وبعد انتهاء القتال، عادت إلى إيران"، هذا التصريح يتناقض تماماً مع ما قاله قائد وحدة المدفعية في الحرس الثوري قبل نحو أربعة أعوام، إذ أشار إلى أن خامنئي أرسل قاسم سليماني سنة 2011 لإنقاذ سورية من المتمردين، قبل ظهور "داعش".
ومن أجل إنقاذ المحور، تحاول إيران تجنُّب المواجهة أو توجيه الاتهامات إلى أردوغان الداعم للمتمردين، وذلك للمحافظة على قدرات تسليح حزب الله عبر تركيا. ومع ذلك، فإن تنظيم "هيئة تحرير الشام" قوي بما يكفي بدعم أردوغان، ولا يحتاج إلى المال أو الذخيرة من طهران لمواصلة بسط سيطرته على الأراضي الجديدة التي في حوزته. أمّا سيطرة أردوغان على المتمردين، فهي تسلط الضوء على الدور الحاسم لتركيا في إدارة التهديد القادم من الحدود السورية وأهمية علاقاتها بإسرائيل.
نحن في حاجة إلى سياسة مختلفة تجاه تركيا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدولة والشخص الذي يقودها. وفيما يتعلق بأمن إسرائيل، بما يشمل كبح جماح المتمردين السوريين الخاضعين لسيطرتها، يرى خبراء بالشأن التركي أن هناك حاجة إلى استخدام "عملة صرف فلسطينية"؛ إذ يجب أن يكون التركيز على العلاقات مع تركيا في السياق السوري مترافقاً مع مسألة مواصلة الوجود العسكري الإسرائيلي وترسيخه، والعودة إلى العلاقات السابقة التي كانت لإسرائيل مع فصائل الجيش السوري الحر، والدروز، وسكان جنوب سورية والجولان، من خريجي برنامج "حُسن الجوار".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق