في الوقت الذي يكثف في العدو الصهيوني فيه التحركات الرامية إلى تحقيق أحلام اليمين المتطرف في "إسرائيل الكبرى"، كشفت صحيفة العربي الجديد عن عرض أمريكي غامض لمصر، يتضمن "حلًا نهائيًا" لأزمة السد مقابل موافقة القاهرة على مشروع المدينة الإنسانية في رفح، الذي يُنظر إليه باعتباره مقدمة لتهجير سكان غزة.
الصحيفة لم تفصح عن تفاصيل كثيرة، لكن العرض جاء عقب تصريحات مفاجئة أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن سد النهضة، ففي توقيت بدا خارج السياق وغير مبرر، خرج دونالد ترامب مؤخرًا بتصريحات يحذر فيها من خطر سد النهضة على مصر، بل ويهاجم بلاده متهمًا إياهما بتمويل المشروع الإثيوبي بما يضر بمصلحة مصر وشعبها. ورغم أن هذه التصريحات توحي بـ"دفاع عن حقوق مصر"، فإن الحقيقة أبعد ما تكون عن التعاطف.
كل ذلك فتح الباب أمام تساؤلات عديدة: لماذا يعود ترامب للحديث عن أزمة مائية أفريقية الآن؟ ومن يدير خيوط هذه اللعبة؟ وهل ما يجري مجرد مصادفة أم خطة محكمة تستخدم السد كأداة ابتزاز سياسي؟
للإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من العودة إلى نقطة البداية: حيث تتشابك قضايا كبرى، من علاقات ترامب المشبوهة بالملياردير الراحل جيفري إبستين، إلى الصراع داخل تيار "ماجا"، إلى تحركات اللوبي الصهيوني، وانتهاءً بمصر التي تجد نفسها تحت ضغط متعدد الأوجه. لفهم خلفية هذا اللعب الخطير بسد النهضة، علينا أن نعود إلى ملفات أكثر إرباكًا من مجرد أزمة مياه.
إبستين وترامب.. عندما تهدد "الفضائح" القاعدة الشعبية
بدأت القصة قبل سنوات، حين تفجرت فضيحة جيفري إبستين، الثري الأمريكي الذي اتُهم عام 2005 بتشكيل شبكة للاستغلال الجنسي للقاصرات تضم شخصيات من النخبة الأمريكية. إبستين، الذي عُثر عليه ميتًا في زنزانته عام 2019 في ظروف غامضة، كان مقربًا من ترامب منذ التسعينيات، وظهر في عدة مناسبات خاصة معه.
خلال حملته الرئاسية، استخدم ترامب القضية كسلاح دعائي، ووعد ترامب أنصاره من تيار "ماجا" (اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا) بكشف ملفات إبستين ومحاسبة "نخبة واشنطن الفاسدة". لكنه ما لبث أن تراجع عن وعوده، وأعلن في 7 يوليو الجاري أنه "لا وجود لقوائم سرية لعملاء وزبائن جيفري إبستين".
الغضب في أوساط أنصاره من تيار "ماجا" كان كبيرًا، خصوصًا أن هذا التيار المحافظ كان يؤمن بأن ترامب هو منقذ أمريكا من قبضة النخب الفاسدة. ومع تزايد الغضب بين أنصار ترامب في "ماجا"، جاءت الضربة القاصمة: صحيفة وول ستريت جورنال نشرت رسالة قديمة كتبها ترامب لإبستين عام 2003، تتضمن رسمة فاضحة، في تسريب بدا وكأنه موجه بعناية لقلب أنصاره عليه.
تسريب الوثائق الأخيرة ليس عفويًا، بل يبدو جزءًا من خطة تستهدف قاعدة "ماجا" ذات التوجهات الشعبوية القومية، لقلبها على ترامب، أو على الأقل لإضعاف اندفاعها خلفه.
لكن من يقف خلف هذه التسريبات، ولماذا الآن؟
روبرت مردوخ.. الصهيونية تحاصر "المنقذ"
وراء نشر التسريبات تقف صحيفة وول ستريت جورنال المملوكة لروبرت مردوخ، أحد كبار أقطاب اللوبي الصهيوني العالمي. المفارقة أن مردوخ نفسه يملك "فوكس نيوز"، المنصة الإعلامية الأشهر في دعم ترامب، كمنصة مناوئة للاعلام الموالي للديمقراطيين ضد ترامب.. فكيف يهاجمه في جريدة بينما يدعمه في قناة؟
التفسير لهذا التناقض لا يكمن في التعدد الإعلامي، بل في التكتيك السياسي. مردوخ يدعم ترامب طالما يخدم المصالح الإسرائيلية، لكنه يضغط عليه علنًا حين يتردد أو يتباطأ. هدف مردوخ كان واضحًا: إضعاف موقف ترامب داخل قاعدته الشعبية كي يذعن بالكامل للضغوط المرتبطة بملف التهجير من غزة، ويستخم كل قدرات وإمكانيات منصبه ليحقق لنتنياهو واليمين المتطرف ما يريدونه.
إذن، السبب ليس انفصامًا في التوجه، بل تكتيكًا متعدد الاتجاهات:
- تهديد ترامب: مردوخ يستخدم إحدى أذرعه للضغط عليه كي يلتزم أكثر بخدمة الأجندة الإسرائيلية.
- تشتيت "ماجا": بإثارة الغضب الداخلي وتشكيك القاعدة الشعبية في نزاهة ترامب، وهو أكثر ما يخشاه ترامب.
- تطويع الرجل القوي: تحييده في وقت حساس وإجباره على اتخاذ مواقف تخدم التوسع الإسرائيلي في المنطقة.
وهنا يأتي دور سد النهضة مرة أخرى، ولكن ليس كقضية مياه، بل كورقة ضغط كبرى.
الصفقة السرية.. سد النهضة مقابل التهجير
هنا تعود الصورة لمصر. صحيفة العربي الجديد كشفت، نقلا عن مصادر دبلوماسية، قولها إن مسؤولين أمريكيين عرضوا على القاهرة تسوية شاملة لأزمة سد النهضة مقابل قبول مشروع المدينة الإنسانية في رفح، وهي التسمية المموهة لعملية التهجير التدريجي لسكان غزة إلى سيناء.
المقايضة كانت واضحة:
ضمانات أمريكية بشأن الأمن المائي المصري، عبر الضغط على إثيوبيا لتأمين وضمان الحقوق والمصالح المائية للقاهرة، أو بالأحرى توجيه الأمر إلى أديس أبابا، فمن أجل هذه اللحظات كان سد النهضة، وكان توقيع السيسي على اتفاق المبادئ في مارس 2015، التي حولت نهر النيل من نهر دولي تخضع إدارته لاتفاقيات تضمن حقوق جميع الدول المتشاطئة، إلى "نهر عابر للحدود"، ما يعني أن إثيوبيا (أو من يحركها) أصبحت تملك الحق في التحكم بمجرى المياه دون الرجوع لمصر أو السودان.
هذا التوقيع، الذي تم تحت إشراف النظام الحالي، جعل سد النهضة سلاحًا استراتيجيًا بيد أطراف دولية لا تُكن لمصر والمنطقة أي خير. واليوم، تظهر التصريحات الأمريكية، خاصة تصريحات دونالد ترامب الأخيرة التي يحذر فيها من خطر السد على مصر، كرسالة واضحة: "نستطيع أن نحرك السكين التي على رقبتكم متى أردنا".
لكن مصر رفضت العرض، وفقا لـ"العربي الجديد". الموقف المصري المتمسك برفض التهجير جيد وكان ينبغي أن نبني عليه ويجب الاستثمار فيه والدفع به خطوات إلى الأمام، لكن هذا لم يحصل مطلقا، ولعل هذا ما يؤكد أن الرفض دافعه ليس عقائديا أو وطنيا صرفا، بل دافع أمني براجماتي بحت. الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه عبّر بوضوح عن مخاوفه من أن يؤدي التهجير إلى تحويل سيناء إلى "قاعدة انطلاق مقاومة"، ما قد يدفع إسرائيل إلى ضربات عسكرية داخل الأراضي المصرية، ويفجر حربًا لا تريدها مصر. ولا ننسى تصريح السيسي المثير في بداية الحرب، حين ننصح إسرائيل بتهجير الفلسطينيين في غزة إلى صحراء النقب، بعد الانتهاء من حركات المقاومة.
اختراق "ماجا" من الداخل
بالتزامن مع تسريبات "العربي الجديد" عن الصفقة السرية، أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية عن تنظيم جولات لقيادات تيار "ماجا" في الأراضي المحتلة. تبدو هذه الخطوة كأنها مجرد محاولة لكسب التأييد، لكنها في الحقيقة جزء من استراتيجية إسرائيلية متعددة الأوجه.
تجدر الإشارة إلى أن بعض قادة تيار "ماجا" بدأوا يعارضون ترامب ويتهمونه بخيانة شعار "أمريكا أولًا"، لأنه - من وجهة نظرهم - يقدم مصالح نتنياهو على حساب المصلحة الأمريكية. هؤلاء لا يرفضون إسرائيل وخدمة مصالحها، لكنهم يعارضون أن تكون أولوية على أمريكا نفسها، وبعضهم يرى ترامب متواطئًا مع نتنياهو ضد المصالح الأمريكية.
الجولات الإسرائيلية تسعى لإعادة صياغة هذه القناعة: دعم إسرائيل = مصلحة أمريكية. بهذا، تعمل إسرائيل على تطويق ترامب من القمة (اللوبي والنخب) ومن القاعدة (التيار الشعبي)، لجره إلى دعم مشروع التهجير، ثم الضغط به على مصر.
الخيط الرابط: لماذا تُضغط مصر الآن؟
كما نعلم جميعا، ترامب لا يعبأ بمصير المصريين، بقدر ما يوظف سد النهضة لتصفية حسابات داخلية وللخضوع لضغوط اللوبي الإسرائيلي، فهو يسعى عبر هذه التصريحات لتأليب الرأي العام المصري على دولته ونظامه، وإظهار ترامب كمنقذ – فقط إذا وافقت القاهرة على مشروع التهجير، وفي نفس الوقت تذكير الدولة المصرية بالسكين المسلط على رقبتها لإجبارها على القبول بما يريده نتنياهو.
أي أن ترامب يخبر القاهرة أنها بين مطرقة التعطيش عبر سد النهضة، أو سندان الإطاحة بالنظام (عبر انقلاب أو ثورة ملونة) عبر استغلال الرفض الشعبي المتزايد ضد النظام المصري الذي حول حياة المصريين إلى جحيم، بالإضافة للغضب الشعبي المصري من موقف النظام من إبادة وتجويع غزة.
الضغط الممنهج على مصر لا يمكن فصله عن الطموحات الإسرائيلية التي ترى في اللحظة الحالية فرصة نادرة لفرض تهجير غزة تحت غطاء "أزمة إنسانية". نتنياهو يعتبر اللحظة الحالية "فرصة تاريخية" لتحقيق حلم "إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات. لكن العقبة الوحيدة كانت ولا تزال: الموقف المصري الرافض للتهجير.
لذا تم استخدام ثلاث أوراق متزامنة:
- ورقة سد النهضة: لتذكير مصر بأنها تحت رحمة أمريكا في ملف المياه.
- ورقة إبستين: لتقييد ترامب وتحويله إلى أداة طيعة في يد اللوبي الصهيوني، وشحن قاعدة ترامب الشعبية ضده ليكون أكثر انصياعاً للمطالب الإسرائيلية
- ورقة "ماجا": لاختراق التيار الشعبي الداعم لترامب، لإقناعه بأن دعم إسرائيل هو "مصلحة أمريكية عليا والتأثير على قرارات وخطط ترامب السياسية،
المفارقة المصرية: الرفض بدون مقاومة
رغم الرفض المصري الرسمي لمشروع التهجير، إلا أن سلوك القاهرة منذ بداية الحرب على غزة يثير الشكوك. صحيح أن مصر رفضت العرض الأمريكي، لكن ماذا فعلت لمنع الإبادة أو وقف الحصار؟
بنيامين نتنياهو وإسرائيل لا يكتفون بالتجويع والحرب على غزة، بل يريدون "الحل النهائي" عبر التهجير. مصر ترفض رسميًا، لكن السؤال الأهم: هل هذا الرفض كافٍ؟
مصر ترفض التهجير، لكنها تتجاهل الابادة اليومية في غزة. لم تفتح المعابر بالكامل، ولم تضغط لإدخال المساعدات، بل ساهمت في حصار غزة الممتد منذ 17 عاما (أي قبل 7 اكتوبر بـ 15 عاما، بل إن الحصار بات خانقا ومطبقا بعد يونيو 2013، وشمل حتى الأنفاق التي كان نظام حسني مبارك على علم بها ولم يفكر في هدمها أو إغراقها بالماء كما فعل السيسي) عبر التعاون الأمني مع إسرائيل. هذا التناقض يجعل الرفض المصري مجرد ذريعة، خاصة مع وجود إعلاميين مثل محمد الباز الذي يهاجم الفلسطينيين علنًا بتمويل من أجهزة الدولة ومخابراتها التي تمنحه راتبه الشهري عبر ذراعها الممثل في الشركة المتحدة.
معبر رفح مثلا، ظل مغلقا رغم القدرة على فتحه قسرًا (ولنا في تجربة تعامل الرئيس الراحل محمد مرسي مع العدوان على غزة في عهده خير مثال). كما أن إسرائيل سيطرت على معبر رفح بعد ثمانية أشهر من الحرب، بينما كانت مصر تمتلك زمام المعبر منذ اليوم الأول، لكنها تحججت برفض إسرائيل إدخال المساعدات. ولا ننس فرض رسوم باهظة على مرور الفلسطينيين عبر سيناء وصلت إلى 10 آلاف دولار، يديرها رجل الأعمال إبراهيم العرجاني بتواطؤ رسمي.
كل هذا يجعل الرفض المصري يبدو خجولًا، أقرب إلى المناورة منه إلى الموقف الجاد.
الجيش المصري أمام لحظة الحقيقة
بعد كل ذلك، يبقى القول الختامي إنه إذا كان الرفض المصري حقيقيًا، وإذا كانت المؤسسة العسكرية لا تقبل بتهجير الفلسطينيين، فعليها أن تثبت ذلك عمليًا. الجيش المصري، بوصفه المؤسسة الوحيدة القادرة على فرض الإرادة الوطنية، أمام خيارين لا ثالث لهما:
الاستمرار في إدارة الأزمة بالأدوات البيروقراطية التي أثبتت فشلها.
أو اتخاذ موقف وطني جاد يبدأ بفتح المعابر، وكسر الحصار، وإعادة تموضع استراتيجي ضمن محور مقاومة لا يخضع للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية.
وقبل كل ذلك، الجيش المصري مطالب بإعادة النظر في كارثة سد النهضة، خاصة أن اتفاق المبادئ بشأن السد حوّل النيل من حق طبيعي إلى أداة تفاوض.
والأهم من كل ذلك، هو الخروج من عباءة "كامب ديفيد"، والعودة إلى دور جيش الشهيد عبد المنعم رياض، ذلك العسكري العظيم الذي باتت مصر في أشد الحاجة لمثله علما وفهما وإخلاصا ووطنية.
إن مشروع تهجير غزة لن يُنفذ من الجو، بل من معبر رفح. وإذا كان الجيش المصري جادًا في منع تحويل سيناء إلى منصة ضرب لإسرائيل أو نقطة احتكاك لحرب لا يريدها، فعليه أن يوقف الإبادة قبل أن ينفجر الوضع.. فهل تتحول القاهرة من حجر عثرة إلى جدار صد؟ أم سيكتب التاريخ أنها كانت الحلقة الأضعف في أخطر مشاريع القرن؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق