كشفت وكالة رويترز، في تقرير خاص، أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية أوقفت مؤقتًا مشاركة بعض المعلومات الحساسة مع إسرائيل خلال فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، على خلفية تصاعد القلق داخل المؤسسات الاستخبارية الأمريكية من سلوك الجيش الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة، وخاصة حجم القتل الواسع للمدنيين الفلسطينيين وسوء معاملة الأسرى.
وبحسب ستة مصادر مطلعة على التفاصيل، فإن القرار جاء في النصف الثاني من عام 2024، حين علّقت الولايات المتحدة بثًا حيًا مباشرًا من طائرة مسيّرة أمريكية كانت تحلّق فوق قطاع غزة، وهو بث استخدمته الحكومة الإسرائيلية في عملياتها العسكرية، بما في ذلك ملاحقة مقاومين من حركة حماس ومحاولات تتبع الأسرى.
تعليق استخباري محدود.. ودلالات عميقة
المصادر أوضحت أن تعليق بث الطائرة المسيّرة استمر لعدة أيام على الأقل، في خطوة وُصفت بأنها “تكتيكية ومحدودة”، لكنها غير مسبوقة في طبيعة العلاقات الاستخبارية بين واشنطن وتل أبيب. كما قيّدت الاستخبارات الأمريكية، في مرحلة لاحقة، كيفية استخدام إسرائيل لبعض المعلومات الاستخبارية الأمريكية عند استهداف ما تصفه بـ“الأهداف العسكرية عالية القيمة” داخل غزة.
ورغم أن إدارة بايدن حافظت سياسيًا على نهج الدعم المتواصل لإسرائيل بالسلاح والمعلومات، فإن هذا القرار يعكس حالة توتر داخل الأجهزة الاستخبارية نفسها، التي سعت لضمان عدم استخدام المعلومات الأمريكية في انتهاك قوانين الحرب، كما تفرض القوانين الأمريكية التي تشترط الحصول على “ضمانات قانونية” من أي دولة تتلقى هذا النوع من المعلومات.
قلق من قتل المدنيين وتعذيب الأسرى
وبحسب المصادر، فإن القلق الأمريكي لم يقتصر على أعداد الضحايا المدنيين، بل شمل أيضًا مخاوف جدية من ممارسات جهاز الشاباك الإسرائيلي بحق الأسرى الفلسطينيين. وأفادت المعلومات بأن الشاباك لم يقدم ضمانات كافية بعدم إساءة معاملة المعتقلين، وهو ما دفع الاستخبارات الأمريكية إلى قطع وصوله إلى بث الطائرة المسيّرة.
وتشير منظمات حقوقية دولية إلى وقوع انتهاكات جسيمة بحق الفلسطينيين داخل مراكز الاحتجاز الإسرائيلية خلال الحرب، بينما يكتفي جيش الاحتلال بالإعلان عن “تحقيقات داخلية” مع نفي الطابع المنهجي لهذه الجرائم، في تكرار لنمط إنكار بات مألوفًا.
خرق محتمل لقوانين الحرب
ثلاثة من المصادر أكدوا أن الاستخبارات الأمريكية كانت تشعر بالقلق من أن إسرائيل لم تقدم تطمينات كافية بأنها ستلتزم بقوانين الحرب عند استخدام المعلومات الأمريكية. ووفق القانون الأمريكي، لا يجوز مشاركة الاستخبارات مع أي دولة دون هذه التعهدات.
كما أوضح مصدران أن محللي الاستخبارات الأمريكية كانوا يجرون تقييمات مستمرة لسلوك كل من إسرائيل وحماس على الأرض، لمعرفة ما إذا كانت العمليات ترقى إلى مستوى “جرائم حرب” وفق التعريف الأمريكي. هذه التقييمات، وإن لم تكن تحليلات قانونية رسمية، أثارت تساؤلات خطيرة حول سلوك الجيش الإسرائيلي، خاصة في ما يتعلق بالهجمات التي أوقعت أعدادًا كبيرة من المدنيين، ومعاملة الأسرى الفلسطينيين.
تعاون مستمر رغم الشبهات
رغم ذلك، واصل البيت الأبيض رسميًا دعم إسرائيل. وأكد مكتب رئيس وزراء الاحتلال أن “التعاون الاستخباري الاستراتيجي استمر طوال الحرب”، متجنبًا الرد المباشر على مسألة حجب المعلومات. كما رفض مكتب نتنياهو، المشرف على الشاباك، ووكالات الاستخبارات الأمريكية، التعليق على التقرير.
ويرى مسؤولون استخباريون سابقون أن اشتراط عدم استخدام المعلومات الأمريكية في انتهاك حقوق الإنسان “إجراء روتيني”، إلا أن حرمان حليف رئيسي من معلومات ميدانية أثناء حرب يُعد أمرًا نادرًا للغاية، ويعكس مستوى غير معلن من التوتر وانعدام الثقة.
حساسية سياسية غير مسبوقة
خبراء أكدوا أن هذه الخطوة شديدة الحساسية سياسيًا، نظرًا للعلاقات الاستخبارية العميقة بين أمريكا وإسرائيل، والدعم الحزبي الأمريكي التقليدي للاحتلال، خاصة بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، التي استُخدمت ذريعة لإطلاق واحدة من أكثر الحروب دموية بحق الفلسطينيين.
وقال دانيال هوفمان، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية: إن “تبادل المعلومات الاستخبارية يُعد أمرًا مقدسًا، خصوصًا مع حليف قريب في منطقة شديدة الاضطراب”، في إشارة إلى خطورة ما جرى خلف الكواليس.
توسيع ثم تقييد
بعد هجوم 7 أكتوبر، وقع بايدن مذكرة رئاسية بتوسيع تبادل المعلومات الاستخبارية مع إسرائيل. وشكّلت الولايات المتحدة فريقًا استخباريًا قاده البنتاجون ووكالة الاستخبارات المركزية، لتسيير طائرات MQ-9 Reaper فوق غزة، وتوفير بث حي للاحتلال، ساهم في العمليات العسكرية ومحاولات استعادة الأسرى.
لكن مع نهاية عام 2024، بدأت الاستخبارات الأمريكية تتلقى معلومات أثارت مخاوف متزايدة بشأن سلوك إسرائيل، خصوصًا تجاه الأسرى الفلسطينيين، ما دفعها إلى تعليق التعاون الاستخباري جزئيًا، قبل أن يُستأنف لاحقًا بعد حصول واشنطن على “ضمانات” جديدة من تل أبيب.
اجتماع أخير.. وقرار سياسي
في الأسابيع الأخيرة من إدارة بايدن، عقد اجتماع لمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض برئاسته، ناقش خلاله كبار المسؤولين الاستخباريين اقتراحًا بقطع جزء من التعاون الاستخباري رسميًا مع إسرائيل، خاصة مع انتهاء إطار الشراكة التي أُقرت بعد 7 أكتوبر، وتزايد القناعة داخل الأجهزة بارتكاب جرائم حرب في غزة.
بل إن معلومات أمريكية جُمعت آنذاك أشارت إلى تحذيرات من محامين عسكريين إسرائيليين أنفسهم من وجود أدلة قد تدعم توجيه اتهامات بجرائم حرب ضد إسرائيل.
لكن بايدن قرر في النهاية عدم قطع التعاون، معتبرًا أن إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب ستجدد الشراكة على الأرجح، ومتمسكًا برأي قانونيي إدارته بأن إسرائيل “لم تنتهك القانون الدولي”، رغم كل الوقائع الدموية على الأرض.
التصدع المحسوب
يكشف تقرير رويترز عن شرخ نادر، وإن كان محدودًا، في العلاقة الأمنية التي طالما وُصفت بأنها “صلبة” بين أمريكا وإسرائيل، وهو شرخ يعكس توترًا مكتومًا بين التحالف الاستراتيجي غير المشروط سياسيًا، وبين القيود الأخلاقية والقانونية التي فرضت نفسها داخل أجهزة الاستخبارات الأمريكية خلال حرب الإبادة على قطاع غزة.
هذا التطور، المتمثل في قرار مسؤولين أمريكيين حجب بث حي من طائرة مسيّرة وفرض قيود على مشاركة معلومات مرتبطة بأهداف عسكرية محددة في أواخر عام 2024، يُعد تصعيدًا تكتيكيًا ضمن أدوات الضغط الهادئ التي استخدمتها واشنطن تجاه تل أبيب، في ظل تراكم الأدلة على حجم المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين، والتي تجاوز عدد ضحاياها 70 ألف شهيد، غالبيتهم من المدنيين، فضلًا عن تقارير متزايدة حول تعذيب وسوء معاملة الأسرى الفلسطينيين على يد جهاز الشاباك.
ورغم استمرار إدارة جو بايدن في تقديم الدعم العسكري والاستخباري الشامل لإسرائيل، فإن هذا التعليق الجزئي يسلط الضوء على طبيعة العلاقة الاستخبارية بوصفها “مقدسة” من حيث المبدأ، لكنها مشروطة عمليًا بضمانات قانونية وأخلاقية، وهو ما اختبر حدود التسامح الأمريكي مع السلوك الإسرائيلي خلال الحرب.
العلاقة الأمنية: ركيزة تحت الضغط
العلاقة الأمنية بين واشنطن وتل أبيب، التي تشكّلت خلال الحرب الباردة وتعززت بعد عام 1967، تمثل أحد أعمدة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. وتشمل هذه العلاقة مساعدات عسكرية سنوية تتجاوز 3.8 مليارات دولار، إضافة إلى تعاون استخباري عميق مكّن إسرائيل من تنفيذ عمليات حساسة، من بينها الجهود التي تلت هجوم 7 أكتوبر 2023.
ويوضح التقرير أن بايدن، عقب ذلك الهجوم، وقّع مذكرة رئاسية لتوسيع تبادل المعلومات الاستخبارية مع إسرائيل، شملت تشغيل طائرات MQ-9 Reaper فوق قطاع غزة، وتوفير بث حي ساعد الاحتلال في ملاحقة المقاومين ومحاولات استعادة الأسرى، بما يعكس عمق التحالف في لحظات الأزمات.
لكن هذا العمق ذاته اصطدم، مع نهاية 2024، بخطوط حمراء أخلاقية داخل المؤسسات الأمريكية. فالقانون الأمريكي يمنح أجهزة الاستخبارات صلاحية المطالبة بضمانات بعدم استخدام المعلومات في انتهاك حقوق الإنسان. ومع تصاعد التقارير حول تعذيب الأسرى الفلسطينيين، أوقفت واشنطن البث مؤقتًا، ولم تستأنفه إلا بعد تلقي تعهدات إسرائيلية جديدة.
ضبط العلاقة لا كسرها
هذا المشهد يعكس تحولًا نسبيًا في مقاربة واشنطن: فبينما ظل الدعم السياسي لإسرائيل قائمًا وبإجماع حزبي، كما تجلّى لاحقًا في رفض بايدن قطع التعاون رسميًا، مارست أجهزة الاستخبارات ما وصفه التقرير بـ“هامش حركة فوري”، مكّنها من فرض قيود دون توجيه مباشر من البيت الأبيض.
ويرى محللون أن هذا التعليق القصير الأمد – الذي استمر أيامًا فقط – شكّل أداة ضغط رمزية، هدفها إرسال إشارة حدود لا أكثر، دون المساس بجوهر الشراكة أو التفريط بالتفوق العسكري النوعي لإسرائيل، وبما يراعي في الوقت نفسه الضغوط الداخلية المتزايدة داخل أمريكا بسبب الكارثة الإنسانية في غزة.
حدود الخلاف الاستراتيجي
الخلافات بين أمريكا وإسرائيل ليست جديدة، سواء حول الاتفاق النووي الإيراني في عهد أوباما، أو حول ملفات إقليمية أخرى. إلا أن ما يميّز هذه الحالة، وفق تقرير رويترز، هو وقوعها في صميم المجال الاستخباري أثناء حرب مفتوحة، وهو مجال يُعد حرمان الحليف فيه من المعلومات “أمرًا غير معتاد” وذا حساسية سياسية بالغة.
لكن هذا الخلاف بقي محكومًا بسقوف واضحة؛ إذ اقتصر الحجب على أدوات محددة، مثل بث الطائرات المسيّرة ومعلومات تتعلق بأهداف عالية القيمة، دون توسيعه ليشمل تعاونًا أوسع قد تستفيد منه أطراف إقليمية أخرى كإيران أو المقاومة الفلسطينية.
وبحسب المصادر، فإن هذا الطابع “المحدود والتكتيكي” سمح لإدارة بايدن بإدارة انقسام داخلي: فبينما حذّر محللو الاستخبارات من شبهات جرائم حرب، أصرّ محامو الإدارة على أن إسرائيل لم تتجاوز الخط القانوني، ما حال دون تصعيد أكبر.
قرار سياسي رغم التحذيرات
ويظهر الحد الأقصى لهذا الخلاف في اجتماع مجلس الأمن القومي الأمريكي، حين طُرحت مقترحات بقطع رسمي لبعض أوجه التعاون الاستخباري، على خلفية تحذيرات حتى من محامين عسكريين إسرائيليين من مخاطر قانونية تتعلق بجرائم حرب محتملة في غزة.
لكن بايدن فضّل الإبقاء على الشراكة، واضعًا في اعتباره عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، المعروف بدعمه غير المشروط لإسرائيل، وهو ما يعكس بوضوح أن الخلافات المسموح بها أمريكيًا تقف عند حدود “الضمانات الأخلاقية”، ولا تتجاوزها إلى كسر التحالف.
تحالف مقدّس.. لكن هش
الخبراء الذين استند إليهم التقرير شددوا على دلالة هذه الخطوة. فالمسؤول السابق في الـCIA ووكالة الأمن القومي، لاري فايفر، يرى أن طلب الضمانات إجراء روتيني، لكن حجب المعلومات بحد ذاته مؤشر خطير على تآكل الثقة، خصوصًا مع حليف مركزي مثل إسرائيل.
أما دانيال هوفمان، الرئيس السابق للعمليات السرية للـCIA في الشرق الأوسط، فاعتبر أن تبادل المعلومات “مقدس” في مناطق شديدة الاضطراب، وأن أي توقف—even مؤقت—يعكس توترًا حقيقيًا رغم الدعم السياسي الأمريكي الواسع بعد 7 أكتوبر.
وتذهب تحليلات أخرى، مثل ما طرحه ماثيو ليفيت من معهد واشنطن، إلى أن العلاقة الاستخبارية غير متكافئة لكنها حيوية للطرفين، وأن تكرار مثل هذه الحوادث قد يخلق أزمات ثقة طويلة الأمد.
بينما يرى تريتا بارسي من معهد كوينسي أن هذه التطورات تكشف حدود “الدعم غير المشروط”، وقد تدفع إسرائيل مستقبلًا لتنويع شراكاتها الاستخبارية بعيدًا عن أمريكا.
في المحصلة، لا يعكس هذا التطور قطيعة بين واشنطن وتل أبيب، بل ضغطًا أمريكيًا محسوبًا لإدارة الجرائم لا لوقفها، وضبط سلوك الاحتلال لا محاسبته، وهو مسار مرشح لمزيد من الاحتكاك إذا استمرت حرب الإبادة على غزة، حتى في ظل إدارة ترامب الحالية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق