حسن حافظ
جاءت وفاة يزيد بن معاوية سنة 64هـ/ 683م، لتضع هذا السؤال أمام جميع المسلمين، فشرعية قريش التي استند إليها حكم الخلفاء بداية من أبي بكر يبدو أنها تتراجع وتتآكل، خصوصا مع الصراع الذي نشب بين ابن الزبير القرشي الرابض في الحجاز وبقايا الأمويين في الشام، لكن هذا الخلاف القرشي القرشي، سمح لصوت قديم تم إسكاته منذ لحظة الردة، بالعودة إلى الواجهة، وهو صوت القبائل المتمركزة في شرقي الجزيرة العربية، وهي قبائل ربيعة في الأساس (انضمت إليها بعض قبائل مضرية)، وإذا كان يزيد بن معاوية قبل وفاته قد قضى على حزب الأنصار باعتباره أحد أصحاب شرعية الحكم منذ لحظة تأسيس تاريخ المسلمين، فإن المساحة التي تخلقت من الصراع القرشي القرشي سمحت للقبائل الربيعية أن تعود إلى النشاط تحت لافتة ضخمة جدا وهي حركة الخوارج، التي ادعى بعض قادتها الخلافة وإمرة المؤمنين وإن كانت شرعيتهم لا تتجاوز رجال حركتهم ومن يخضع لنفوذهم المباشر.
نجدة بن عامر الحنفي (نفس قبيلة مسلمة الحنفي المعروف بالكذاب، والذي أراد مشاركة بني حنيفة من بكر بن وائل لقريش في حكم العرب)، وقد ثار نجدة في اليمامة موطن بني حنيفة، وحاول التنسيق مع ابن الزبير، لكن اللقاء بينهما في مكة انتهى إلى لا شيء.
نافع بن الأزرق الحنفي البكري، من نفس قبيلة نجدة بن عامر، لكنه زاد عليه باتخاذ مواقف متطرفة (راديكالية في ثوريتها) بما في ذلك تكفير بعض الصحابة، وتكفير فاعل الكبيرة، وتكفير مخالفيهم. وبسبب حدة هذه الآراء انقسمت حركة الخوارج على نفسها بسبب التشدد في المواقف الذي قاد إلى مزايدات دينية لا تنتهي، يعقبها انشقاقات سرطانية منعت الخوارج رغم انتشار مروحة حركتهم الاحتجاجية، وشجاعة فرسانهم المشهودة لهم من مخالفيهم، من تحقيق أي انتصار حقيقي على المدى المتوسط أو الطويل، فكانت نجاحاتهم قصيرة المدى.
لدينا جماعة الصفرية وجماعة الإباضية نسبة لعبد الله بن إباض، وكلاهما من جمجمة تميم المضرية، وإذا كانت الصفرية جماعة غامضة تتبنى مواقف متشددة، فإن الإباضية تتخذ مواقف أكثر اعتدالا. على كل حال انتشرت الحركة الخارجية في مناطق سيطرة قبائل ربيعة وقيس المضرية في شرقي الجزيرة العربية وانتشرت سريعا صوب العالم الإيراني حيث سيطرت على أماكن واسعة في إقليمي فارس والأهواز، وبدأت في مناوشة البصرة، والتي تولت فيها قبيلة أزد عمان بقيادة المهلب بن أبي صفرة مواجهة الخوارج، والذي عمل تحت راية الخليفة الشرعي -وقتذاك- عبد الله بن الزبير. في هذه الأجواء سطع نجم فارس الخوارج الأشهر قطري بن الفجاءة الذي تولى قيادة الأزارقة في تلك الأجواء. (عن تفاصيل تحركات الخوارج راجع كتاب لطيفة البكاي "حركة الخوارج").
كانت حركة الخوارج بعيدة عن الشام حيث يقبع عبد الملك بن مروان الذي كان يحشد موارد مصر والشام من أجل الاستعداد لمواجهة التحديات التي تواجهه وتواجه شرعية خلافته الوليدة، وكان قد انتهى من ترتيب البيت الأموي، ثم خرج إلى العراق وهزم مصعب بن الزبير، وأعاد العراق للمظلة الأموية، بعد معركة دير الجاثليق، هنا أصبح عبد الملك بن مروان منخرطا في مواجهة الخوارج، لذا اتخذ إجراءات سريعة، تمثلت أساسا في الإبقاء على المهلب بن أبي صفرة في قيادة الجيش الذي يواجه الخوارج، لكن أعماله تأثرت بغيرة ولاة الأمويين على العراق الذين لم يعجبهم شعبية المهلب بين جيش البصرة، لكن الأمر تغير بعد أن تم القضاء على دولة عبد الله بن الزبير على يد الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي سرعان ما تولى ولاية العراق لعبد الملك، وتولى تنفيذ رؤية عبد الملك بضرورة جمع موارد المصرين الكوفة والبصرة لمواجهة الخوارج، فاستخدم الشدة والحزم في جمع موارد العراق البشرية والمادية لتوفير الدعم للمهلب بن أبي صفرة الذي استطاع بعد سنوات طوال القضاء على انتفاضة الأزارقة.
أما نشاط نجدة الحنفي فقد شمل اليمامة انطلاقا ثم تمدد صوب إقليم البحرين ومنها إلى عمان وحضرموت، لكن عبد الملك أرسل الجيوش حتى استعاد هذه المناطق من نفوذه الخوارج المتهاوي، بينما واصل الخوارج النشاط في الجزيرة الفراتية بقيادة شبيب بن يزيد الشيباني البكري، والذي أحرج الحجاج بن يوسف في العراق كله، ما دفعه للاستنجاد بجيش الشام الذي تحول إلى ما يشبه جيش الخلافة المروانية النظامي، وانتهى الأمر بهزيمة شبيب وانهيار هذه الفورة في الحركة الخوارجية التي استمرت طوال سنوات الفتنة الثانية وكذلك لعدة سنوات بعدها.
ورغم شراسة وانتشار حركة الخوارج وتبنيها لبعض المبادئ ذات الجاذبية فإننا نتفق مع رأي لطيفة البكاي بقولها إن "الخوارج لم يتمكنوا رغم تبلور أفكارهم في السنوات السابقة وتعدد تجاربهم من تصور نظام حكم قائم على مؤسسات يمكنهم بواسطتها ممارسة حقهم في إدارة شؤونهم. لذلك فشلت هذه المجموعات في المحافظة على وحدتها واستقرارها وبرهنت على عدم قدرة الخوارج على قيادة أية مجموعة حتى وإن كانت خارجية".
...
شكلت حركة الخوارج الخطر الثالث والأخير على حكم عبد الملك بن مروان، الذي بنى شرعية حكمه بخطوات مدروسة بداية من تأكيد زعامته على البيت الأموي، ثم إعادة توحيد قريش تحت زعامته عبر التخلص من الخليفة عبد الله بن الزبير، ثم القضاء على حركات الخوارج المتحالفة/ المنبثقة مع قبائل مهمشة في شرقي الجزيرة العربية. عند هذه اللحظة بدأ عبد الملك المنتصر في التفكير في شكل يدير به الإمبراطورية العربية الإسلامية، وكيفية تمارس فيها الدولة أدواتها وتحتكر العنف ةتحصيل الموارد في الأقاليم المفتوحة. يدرك جيدا أن نظام الخلافة الصحابية انتهى إلى الأبد، وأن نموذج معاوية القائم على تحالف عشائري لم يعد قادرا على الاستمرارية بعدما وصل إلى مرحلة الإفلاس على يد يزيد بن معاوية، لكن عبد الملك استفاد من خطوات يزيد التي استنزفت/ قضت المرجعيات القائمة لآل البيت وأبناء الصحابة وحزب الأنصار، وعمل على استكمال هذه الخطوات بالإضافة إلى قضائه على فورة حركة الخوارج التي ناوشت بشرعية رابعة، لكن القضاء على الفوضى لا يعني أن الأمور عادت إلى ما كان عليه، فالعمل للحفاظ على الاستقرار أو مكتسبات عام الجماعة الثاني والذي حققه سنة 73هـ/ 693م، كان يستدعي منظومة مختلفة، وهنا ظهرت عبقرية عبد الملك في إعادة تأسيس دولة المسلمين على أسس وأفكار جديدة، جرب بعض هذه الأفكار خلال حروبه ضد الخوارج بالذات.
لا نبالغ إذ قلنا أن الكثير مما اخترعه عبد الملك ومعه كبار رجال دولته وفي مقدمتهم الحجاج بن يوسف الثقفي لا يزال حاكما وراهنا في يوم المسلمين هذا. فماذا فعل عبد الملك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق