أحدث الموضوعات
recent

بسمة عبدالعزيز تكتب: قامُوس البائِعين

أفرط الرَّجلُ في الكلام، فما كان من رَفيقِه إلا أن لَكزَ جانبَه هامسًا: اشترِ ولا تَبِع. لم يكن الأمر مُتعلقًا بعملية بيعٍ وشراءٍ عاديةٍ على الإطلاق؛ بل مُحاولةٌ لجَسّ النَّبض ومَعرفة بعض المَعلومات اللازمة؛ إذ يُدرك صاحبُ الخِبرةِ أن عليه السماعَ والإنصاتَ، وعدم الإفضاءِ إلا بالقليل مِن الكلمات، وتركِ المَساحة للآخرين كي يَبوحوا ويُفصحوا ويَستفيضوا؛ فيتحصَّل هو على أعظمِ فائدةٍ مُمكنة. 

البائع فاعلٌ مُقتدِر، والمَفعولُ به مَبيع وهو في العادةِ بلا حولٍ ولا قوَّة، وإذا قيلَ فلانٌ ذو باع في كذا وكيت؛ فالمعنى أنه يَملِك مَعرفةً واسعةً بالأمرِ المَقصود، وإذا كان طويلَ الباع؛ فقد بلغ الغايةَ والذروةَ، أما الباع على إطلاقه؛ فالمسافة الكائنة بين الكفَّين ما انبسطت الذراعان على جانبيّ الجّسم وامتدتا.  

إذا بدا المُقابلُ ضحلًا لا يتناسب والمَبذول؛ فقد باع المرءُ رخيصًا، وإذا رضيَ بما يُمنَح من فُتات؛ فقد تنازلَ عما يمنحه المكانةَ والقيمة، وإذا لم يِثُر على أوضاع يُباع فيها الغالي ويُهدر الثَّمين، ويُؤتى بالوَضيع مُتجبرًا متسيدًا الجميع؛ ما استحقَّ رحمةً ولا تعاطفًا. 


قدَّم عبد الحليم حافظ في النصف الثاني من الخمسينيَّات أغنية "بيع قلبك بيع ودَّك شوف الشاري مين"، وفي الكلماتِ تأنيبٌ ظاهرٌ وتبكيت؛ فالمُحبُّ يدركُ أن ما من أحدٍ غيره يستطيع تقديرَ معشوقته وإحاطتها بما تستحقُّ، وهو الفائزَ بها إذًا ولا شكّ.

البيع والشراءُ نقيضان مُتلازمان؛ لا حضور لأحدهما في غيابِ الآخر؛ فإن عدمت البضاعةُ مَن يريدها؛ بارت واختفى بائعها أو جاء بدلًا منها بما راج صيتُه وبحث عنه الناس. قد يسأل الزبائنُ عن مُنتَج بعينِه فلا يجدونه، يفتشون عنه فيتعثَّرون في بديلٍ أقلّ جَودة؛ يَرفضونه مرةً ومرَّات ثم لا ينفكّون يقبلونه؛ فصاحبه قد احتكرَ السُّوق، ونحَّى عنها المنافسين وأقصاهم بما اجتمع له من بأسٍ ونفوذ.

حين يخون الواحد؛ يُوصَف بأنه قد باع وقبض الثمن، وإذا جار على كرامة الآخرين قالوا: يبيع ويشتري فينا، وإذا أوقع ضررًا بالأقربين في سبيل تحقيقِ مَصلحته قيل: باع أهلَه وناسَه. بعضُ الأحيان يكون عاميًا عما ارتكب، وفي أخرى يكون مُبصِرًا وواعيًا باختياره. هناك مَن يَصون الصداقة ولا يُفرط فيها، ومن يبيع أصحابه ولا يستنكف أن يَصعدَ على أنقاضهم؛ والحقُّ أن علوَّه قصير الأجل وفوزَه زائلٌ، ومكانتَه بين الناس مُنحطةٌ؛ وإن بات ردحًا من الزمان على قِمَّة الهرم.

في دراما "رحلة المليون" التي تابعتها أغلب الأجيال متوسطة الأعمار؛ اشتهرت عبارة: "بيع يا لطفي"، تداولتها الألسنة فترة ثم نسيتها؛ لكنها قد استُدعيَت في الآونةِ الأخيرة ورَاجت، ولاستدعائِها ولا شكَّ أسبابٌ وَجيهة. 

عادةً ما يأتي القولُ المأثور: "بين البايع والشاري يفتح الله"، ليُعلنَ عن وصُول المُفاوضاتِ إلى طريقٍ مسدودة؛ فالبائع له رأيٌ والشاري يُخالفه، والحلُّ أن يفترقَ الاثنان وأن يصرفا النظرَ عن إتمام المُعاملة التي قد تستجلبُ الغضبَ، وليأملا أن تتفتَّح أمام كلّ منهما طريقًا أنسبَ لرغباته. 

"عواد باع أرضه يا ولاد.. شوفوا طوله وعرضه يا ولاد"؛ أوبريت قُدمت في الستينيات، كلمات مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل وإخراج أنور المشري، وأداء الفنانين سعاد مكاوي وسيد اسماعيل، ويقال إن القصَّةَ الحقيقيَّة وقعت في أربعينيات القرن العشرين، وأن الفلاحَ المَقصود بها لم يبع الأرض كما قد يُفهَم من المطلع الذي تحمل كلماته وافرَ الاستنكار والتحقير؛ بل دافع عنها وسُجِن في سبيلها، وعلى كل حال؛ صارت العبارةُ جُرسةً لكلّ عوَّاد يتخلى عن أعزّ ما يَملك؛ وما أكثر العوَّادين في يومنا هذا.

كثيرًا ما تكون حساباتُ المَكسب والخسارة خادعة؛ فبعضُ المرَّات يظنُّ المرءُ أنه حقق ربحًا فوريًا؛ لكنه يكتشف أن البيعةَ خاسرةٌ على المدى طويل، والعكس صحيح، وإذ يُقال مَن زرعَ حصد؛ فكناية عن الوقت المُمتد الذي يَصبره الزارع كي يحصدَ الغلَّة المُشبعة. 

غالبًا ما يساوم الشاري ويحاول أن يمارسَ مَهارته وأن يتحايلَ لخفضِ السعر، فإن تمسك البائع بكلمته جاءت المناوشة: هزّ شويه.. آخرك كم؟ يستطيع التاجر الشاطر إرضاءَ الزبون، وإشعاره بأنه تحصَّل على غنيمة، ولا جدال أن بعضَ التجَّار يملكون الحنكةَ وخِفَّة الروح، والبعض الآخر له أسلوبٌ طارد، ينفر على أثره الزبون. 

إذا جاع الواحد بحث عما يحفظُ ماءَ وجهه. يبيع المَيسورُ عقارًا أو سيارةً أو مَصاغًا، أما الأفقر حالًا فقد يبيع أعضاءَه في سوقٍ أكثر تدنيًا وانحطاطًا، ولإن باع المرءُ "اللي وراه واللي قدَّامه"؛ فقد عدم كلَّ موردٍ يستره وبات معوزًا ذليلًا. ثمَّة من يبيع نفسَه ومن يبيع قلمَه، ومن يبيع مبادئه جُملةً وتفصيلًا؛ والثمَن في النهاية بَخسٌ، ولا أدقَّ وصفًا هنا من قولة أمل دنقل: هي أشياءٌ لا تُشترى.

ربما لا تكون المسافة واسعة بين بياع الهوى وبياع الهوا؛ كلاهما لغته جاذبة، وكلامه معسول، يغري السامع ويخدره ويوحي له بالراحة؛ فيما الحقيقة ألا بضاعة لديه، وفي حكمهما بياع الكلام؛ إذ لا يملك سُلطةَ الفعل ولا إرادة التنفيذ. 

قيل ضِمن ما قيل في تزييف وعيِ الناس؛ إن الفسلطينيين قد باعوا أراضيهم تراضيًا، وإنهم على هذا لا يستحقون المُساندة أو حتى التعاطُف. تبيَّن في الآونة الأخيرة كذبُ القول، وتداول المتواصلون على المواقع الاجتماعية منشورًا فاضحًا، يكشفُ هُويَّة من تمسَّك بأرضِه ومَن طفق يبيعها؛ وإذ غنّى الشيخُ إمام: "بيع الأرض والعرض لعدوي على عينك يا تاجر في المراية"؛ فقد صَلُحَت كلماتُه لعهودٍ كثيرة. 

ترفع كثير المحال التجارية لدينا عبارة: البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل. يصعب أن يصادف المرء مثل هذا الإعلان التحذيري في البلدان الغربية؛ فحق الزبون أن يرد ما ابتاع أو يبدل به آخر، والحق أن التفاوت في المعاملة مبعثه قدرتنا الفائقة على التحايل والالتفاف. 

في قصيدته الشهيرة "كم تشتكي وتقول إنك معدم"، يقول إيليا أبو ماضي: "يا من يحنّ إلى غدٍ في يومه.. قد بعت ما تدري بما لا تعلمُ". لم أرتح يومًا للمعنى رغم روعة القصيدة؛ فالحنين للآتي أملٌ، والأملُ تطلع للأفضل والأكرم، ولإن رضي المرء بيومه ما جاءه غدٌ أبدًا. 

زقاق النت

زقاق النت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.