محمد عبد الحي*
“مقدمة” ابن خلدون([2]) هي مقدمة في الأصل لموسوعة ابن خلدون في التاريخ([3])، وهي بحث أراد به المؤلف النظر في المزالق التي يمكن أن تدفع بالمؤرخ إلى رواية الخبر الزائف، والقضايا التي يستطيع أن يتثبت بها من صحة الخبر الذي هو مادة التاريخ، فالتاريخ حسب ابن خلدون: هو فيما يتجلى للناظر المتسرع «إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول»([4]). فكل الحكايات والأساطير والمرويات المختلفة عن الماضي، داخلة في هذا التعريف، وهو ما يتنافى مع وصف العلم، أو الفن، كما يقول ابن خلدون، لأن الفن لابد أن تكون له أسس وقواعد، إذ هو نظام جامع مانع، وبذلك فلا يمكن أن يكون مجرد الإخبار عن الماضي ودوله وتحولاته داخلاً بدون قيد أو شرط في فن يراد له أن يكون نظاماً تحكمه قواعد، فالحادثة التاريخية لا تنفصل عن الأسباب العامة، التي تحدد حدوثها، مما يعني أن معرفتها تستوجب معرفة تلك الأسباب العامة، والغفلة عن هذه الحقيقة هي التي قادت جل المؤرخين إلى الخلط وسوء فهم طبيعة التاريخ ووظيفة المؤرخ، فتجدهم:
إذا تعرضوا لذكر دولة نسقوا أخبارها نسقاً، محافظين على نقلها، وهماً أو صدقاً، لا يتعرضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى افتقاد مبادئ الأحوال ومراتبها، مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثاً عن المقنع من تبيانها أو تناسبها ([5]).
فعمل هؤلاء سواء أكان «ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل»([6])، وهو علم التاريخ عند ابن خلدون، أم كان «ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار»([7])، وهو عنده أساس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده، وتتبين به أخباره([8])، عرضة للوهم والغلط، لأن المؤرخين غالباً:
لم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها، ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض وطويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل»([9]).
ومن هنا تعددت أسباب الكذب في نقل الخبر، وقد عدد منها ابن خلدون تسعة هي:
1 – ميل الإنسان إلى تصديق الخبر الذي يتفق مع رأي يعتقده، أو مذهب يؤمن به، دون تمحيص.
2 – الثقة بالناقل أو الراوي.
3 – سوء فهم الراوي أو الناقل.
4 – الثقة بالناقل أو المؤرخ.
5 – الدس في الأخبار.
6 – تملق أصحاب التجلة بإشاعة أخبار عنهم لإرضائهم.
7 – الجهل بطبائع الأحوال في العمران.
8 – النقل دون تمحيص ونزوع الذهن إلى المبالغة، وولوع النفس بالغرائب.
9 – قياس الماضي على الحاضر قياساً مطلقاً دون الانتباه للفروق([10]).
وهذه التسعة يمكن اختزالها في سبب رئيسي هو: الجهل بطبيعة العمران المتحكمة فيه، إضافة إلى أسباب ثانوية أبرزها ثلاثة هي:
1 – الغفلة عن تبدل الأحوال.
2 – الإغراض عن قصد وعن قير قصد.
3 – الوثوقية وسوء الفهم([11]).
لهذا فالأخبار العامة عن الأيام والدول ليست غاية في ذاتها، وإنما هي أس المؤرخ، إليه يرجع لفهم التاريخ الخاص بعصر أو جيل، فالغاية من ذلك كله ومن استعراضه والتنقيب عنه، وإنفاق الوقت فيه، هي معرفة القوانين المتحكمة في الماضي وتحولاته، والدول وتقلباتها، حتى يتمكن المؤرخ – والإنسان عموماً – من معرفة حاضره ومستقبله، في ضوء الإمكانات التي تتيحها طبيعة العمران، كما تعكسها تجارب الإنسان في الماضي، ومؤشرات الحاضر «حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك، من الأيام والأجيال وما بعدك»([12])، ولهذا فإن فهم الحدث التاريخي يحتاج إلى معرفة خاصة غير رواية الأخبار، يحتاج إلى علم أصول الأخبار.
فإذا كان فهم مسائل الفقه قد احتاج إلى ابتكار علم للقواعد الموجهة لهذه المسائل، فتم ابتكار علم أصول الفقه، وكذلك جرى الأمر نفسه للنحو، فابتكر علم أصول النحو، وجرى الأمر كذلك لعلم التوحيد، فتم ابتكار علم الكلام، بل إن الغزالي (ت. 505 ﻫ/ 1112 م) رأى أنه ابتكر علم أصول الدين كلها، فسماه علم المعاد، فإن ابن خلدون رأى أنه ابتكر علماً جديداً لأصول الخبر هو علم العمران الذي هو علم مستقل بذاته:
ذو موضوع هو: العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أو عقلياً([13]).
وهو يرى أنه شرح فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها([14]).
وهو علم يحول غاية المؤرخ من سرد الأخبار وتصيد الغرائب إلى السعي إلى فهم الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل: التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على البعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال([15]).
فالاجتماع الذي يحدث به تعاون، خاضع لنظام مضبوط يمكن الفرد أن يغير من الكون ويؤثر فيه، هو المعنى الذي يعطي للحدث معنى تاريخياً، والعصبيات والتغلبات تدفع إلى وجود وازع يوجه خط سير الأحداث.
فالحاجة إلى التعاون وإلى الوازع الذي ينظم التعاون، هما العاملان الإنسانيان اللذان يؤطران الحدث التاريخي، فالفعل التاريخي مصدر وجوده هو التعاون، والمحرك الذي يحركه هو الوازع، وأي فعل لا توجهه هذه الغاية، ولا يحركه هذا الفاعل، هو فعل أو حدث غير تاريخي، لأنه لا يتفق مع طبيعة الاجتماع الإنساني، ولا مع غايته التي هي عمران العالم فـ«للعمران طبائع في أحواله، ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار»([16])، والمؤرخ الحق هو الذي يعرف كيف يعرض الخبر على القوانين المتحكمة في طبائع العمران هذه، بناء على معرفة عميقة بهذه القوانين، وربط لها بتطور الزمن، بوعي وحذر من تأثيرات الذات على الموضوع، سواء فيما يتعلق بالفهم أم الأغراض، أم الدوافع الذاتية المتعددة التي قد تؤثر على الناقل أو المتلقي، فالتاريخ إذاً، ليس الخبر منقولاً على عواهنه، وليس علم العمران، أي علم أصول التاريخ، وإنما هذان مادة التاريخ، فالتاريخ في حقيقته «نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع أو أسبابها عميق»([17])، فهو إذاً ثقافة وممارسة، هو قراءة متبصرة متأنية للماضي وأحداثه، والأسباب والعوامل الفاعلة في هذه الأحداث، والنتائج الممكنة لها، والحتميات التي تؤدي إليها تلك الأسباب في ضوء تحولات الزمن، وتغير المكان والبيئة، وهامش حرية الإنسان؛ لذلك فهو بعيد عن أن يكون حكاية أو قصة عجائبية يتلهى بها، إنه فكر وفلسفة، فهو، من حيث تصنيف العلوم، علم عقلي قبل أن يكون نقلياً، بل هو «أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق»([18]).
فمحوره محور الفلسفة الوضعية العملية المقصورة على الإنسان ذلك الحيوان الناطق الذي دأب على السعي من أجل التحكم في مصيره، وتوجيه خطاه نحو ما يرى أنه أصلح له، وأقدر على أن يسمو به نحو الأفضل.
ولهذا فالممارسة التاريخية تستلزم معرفة بعلم العمران الذي يمثل العصب المحوري لثقافة المؤرخ، كما تستلزم قدرة فائقة على عرض الخبر عليها، وقراءته انطلاقاً منها، فهو إذ يستعرض الخبر إنما ينقده ويغربله على أساس أدواته المعرفية «يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذ تنقل، والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل»([19])، فالمؤرخ إذاً، إنسان يملك ثقافة فكرية تاريخية، وخبرة عملية، وقدرة على الممارسة المنهجية.
ويلخص ابن خلدون في نص دال هذه الثقافة الضرورية، وذلك المنهج العلمي، فيقول:
اعلم أن فن التاريخ فن غزير المذهب، جم الفائدة، شريف الغاية، إذ هو يقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت، يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها على الشاهد، والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق؛ وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، لم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط([20]).
فثقافة المؤرخ حسب هذا النص ترجع إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة يمكن تلخيصها في أربع:
– المعرفة الدقيقة بأصول العادة.
– المعرفة الدقيقة بقواعد السياسة.
– المعرفة الدقيقة بمختلف الأحوال في الاجتماع الإنساني.
– المعرفة الدقيقة بطبيعة العمران.
أما الممارسة والخبرة المنهجية فتقومان على:
– القدرة على تحكيم النظر العقلاني والبصيرة النفاذة.
– القدرة على استعمال معيار الحكمة المتمثل في المنهج القياسي أي
قياس “الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب”.
وبدون هذين المسندين الثقافي والمنهجي، والتفاعل بينهما، لا يمكن الحديث عن تاريخ ولا مؤرخ، وإنما مجرد سرد قصصي، وراو يقض ما سمعت أذنه، وتخيلت مخيلته، وزين له هواه.
فالتاريخ إذاً، قراءة متمعنة لأحداث الماضي والحاضر تقوم على:
1 – تحليل الحدث ونقده نقداً يعتمد على معرفة متمكنة للقواعد والأسباب والغايات التي تتحكم فيه.
2 – استخدام منهج محكم يعتمد القياس، ويراعي الظروف الزمانية والمكانية، والمؤثرات الاجتماعية والنفسية، والدوافع الذاتية والموضوعية.
وقد شرح ابن خلدون في “مقدمته” هاتين الركيزتين الضروريتين لثقافة المؤرخ، وسنحلل شرحه لهما من خلال:
طبيعة العمران وقوانينه
للاجتماع البشري قوانين تحكمه، وللعمران طبيعة تتحكم فيه، تقتضيها أصول العادة، وقواعد السياسة، فهو حاجة فطرية للإنسان، لا يصح وجوده إلا بها، ولذلك قال الحكماء: «إن “الإنسان مدني بالطبع”، أي لابد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم، وهو معنى العمران»([21])، لأن الحاجات الأولى التي يتوقف عليها بقاء النوع، وهي: المأكل والمشرب والملبس والمسكن والأمن والتناسل، لا يمكن للفرد أن يوفرها لنفسه دون الاستعانة بغيره، ولأن الاجتماع نفسه يقتضي وجود سلطة مرجعية تنظم حدود مسؤولية كل فرد من أفراد الجماعة ومدى حريته، فالاجتماع إذن حاجة فطرية ودافع أولي، شأنه شأن وجود الوازع أي السلطة المنظمة، ولكل من الحاجتين قوانين تتحكم فيها، وتسيرها، وعلم هذه القوانين هو علم العمران:
علم عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل: التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال([22]).
هذا التصور تصور تكويني ينطلق من البسيط إلى المركب، من الحيوانية: صفة الجنس، إلى الإنسانية صفة النوع، من الحد إلى الفصل، من التوحش إلى التأنس، من التأنس إلى التعصب والتكاثف القبلي، من التكاثف القبلي إلى المغالبة والتغلب، من التغلب إلى الملك والدولة المؤسسة القاهرة، من تكوين الدولة إلى أداء وظائفها التنموية: الكسب والخدمات، أي الخبرات العملية: من الكسب والصنائع إلى الخبرات النظرية: العلوم النظرية، هذا التصور التكويني للاجتماع البشري، وما ينجم عنه من عمران، وتدرج هذا العمران من البسيط إلى المركب، ومن الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي، هو الذي بنى عليه ابن خلدون “مقدمته” لكتاب “العبر”؛ فابتدأها بالمحيط وتأثيره على الإنسان، ثم ثنى بالعمران البدوي المتقشف الذي هو أول نواة للاجتماع الإنساني فيه، أي أولئك الذين يعيشون على الطبيعة تماماً:
سكان الصحاري الذين يعيشون على ألبان إبلهم ولحومها وأصوافها، لا يستقرون في مكان؛
ثم أولئك الذين يعيشون في الجبال القريبة من المدن يعتمدون على تربية الأبقار والأغنام ويتبادلون مع سكان المدن بعض نتاجها؛
ثم أولئك الذين يتاخمون المدن في قرى قارة لارتباطهم بالأرض التي يزرعون ويبيعون ثمارها إلى سكان المدن ليدخروا من أثمانها ما به يعيشون في بقية السنة التي لا تصلح فيها زراعة، فالاجتماع في هذا المستوى تغلب فيه فاعلية العامل الطبيعي؛
ثم ثلث بالملك والدولة أي العمران الأكثر تعقيداً ورخاء: عمران المدينة بأصنافه الثلاثة: الصناع أو أصحاب الخدمات، ثم التجار وملاك الأموال، ثم الحكام الذين يفرضون سلطتهم على الآخرين ويفرضون عليهم الجبايات، وما ينشأ عن هذه الأنشطة من مظاهر العمران المادية والعلمية: المدن والأمصار، والكسب والصنائع والعلوم. وهو ما يبرز أن الاجتماع في هذا المستوى تغلب عليه فاعلية العامل الثقافي.
وهكذا جاءت أبواب المقدمة ستة، ثلاثة([23]) منها تصف الحركة التكوينية من البسيط إلى المركب، التي تمثل حركية التطور الزمني التاريخي للعمران وللاجتماع البشري عموماً وهي:
– المحيط وتأثيره على الإنسان: «في العمران البشري على الجملة»([24]) وأصنافه وقسطه من الأرض (وفيه ست مقدمات)([25]).
– العمران البدائي المتقشف: «في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال» (39 فصلاً)([26]).
– نشأة المدينة والدولة وتطورها «في الدول والملك والخلافة والمراتب السلطانية» (53 فصلاً) ([27]).
أما الثلاثة الباقية فتصف الظواهر المترتبة على تأسيس المدينة وقيام الدولة ووظائفها، وهي تتحدث عن:
– بناء المدن والأمصار: «في العمران الحضري والبلدان والأمصار» (22 فصلاً)([28]).
– أصناف الكسب والصنائع «في المعاش ووجوه من الكسب والصنائع» (33 فصلاً)([29]).
– أصناف العلوم النظرية: «في العلوم واكتسابها وتعليمها» (60 فصلاً)([30]).
وهكذا ينطلق ابن خلدون من المبدأ الأول الفاعل في العمران: «التعاون، فالعمران هو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما في طبائعهم (= الناس) من التعاون على المعاش»([31])، وهو يتفاوت في مناطق الأرض من حيث القلة والكثرة والتخلخل والكثافة، تبعاً لاعتدال المناخ، بين البرودة الشديدة، قرب المحيط المتجمد الشمالي، والحرارة الشديدة، قرب خط الاستواء، فالأقاليم المحاذية للبحر المتوسط أكثر اعتدالاً، ولذلك كانت مركز الحضارات والديانات. وبقدر ما يكون الإقليم أكثر اعتدالاً يكون أخصب وأثرى، وكل بيئة تفرض نمط الإنتاج الممكن فيها، والتفاوت بين الناس خاضع لذلك، لـ«أن اختلاف الأجيال إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش»([32])، وهذا الاختلاف – كما تقدم – يتدرج من البساطة إلى التركيب حسب طريقة اكتساب المعاش؛ وتبعاً لنحلة المعاش هناك جيلان:
– جيل البدو.
– جيل الحضر.
وجيل البدو يضم ثلاثة أجيال هي:
1 – العرب «ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة»([33])، «وهم سكان الصحراء والقفار والبادية القليلة الخصب، وهم جماعات تعيش تحت الخيام في القفار يعتمدون ألبان إبلهم ولحومها يقتاتون منها يسيراً بعلاج وبغير علاج»([34])، «وهم بدون وطن يرتافون منه، ولا بلد يحتجون إليه»([35])، «يتنزلون من أهل الحواضر منزلة المفترس من الحيوان الأعجم»([36])، «أرزاقهم في رماحهم وسيوفهم، يسكبون منها عيشهم من أسهل الطرق، طرق السطو والنهب دون مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفر»([37])، «إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»([38])، «لأن طبائعهم منافية للعمران»([39])، «لا يسلم منهم أحد أمره إلى غيره، وهم مع ذلك أحسن حالاً في جسومهم وأخلاقهم، وأقرب إلى الفطرة الأولى، وأشد شجاعة، وأكثر اعتماداً على نفوسهم في رد العدوان عنهم، ينظم علاقاتهم فيما بينهم، شيوخ الحي الذين لهم سلطة أدبية يقبل بها الجميع، ويدفع عنهم العدوان الخارجي فتيان الحي الذين يستميتون في الدفاع عن الجماعة»([40]).
2 – الشاوية: ومن كان «معاشه في السائمة مثل الغنم والبقر، فهم ظعن في الأغلب لارتياد المسارح والمياه لحيوانهم (…) ويسمون شاوية، ومعناه القائمون على الشاء والبقر، ولا يبعدون في القفر لفقدان الطيبة به، وهؤلاء مثل البربر والترك وإخوانهم من التركمان والصقالبة»([41]).
1 – الفلاحون: «المغلبون لأهل الأمصار» فمن كان معاشه منهم في الزراعة والقيام بالفلح كان المقام به أولى من الظعن، وهم سكان المدن والجبال، وهم عامة البربر… ([42]).
ولما «كان التمدن غاية للبدوي يجري إليها»([43])، و«كانت البادية أصلاً للعمران والأمصار مدداً لها»([44])، فإن الجيلين الأخيرين: الفلاحين والشاوية، بحكم قربهما من المدينة يتوقون دوماً إلى السكن فيها.
أما أجيال الحضر سكان المدينة فثلاثة أيضاً، هم:
– فئة جماهير المدن العاملة من تجار صغار وصناع، وأصحاب المهن والوظائف من أهل الفتيا والتدريس، ويسميهم ابن خلدون «فاقدي الجاه»، وبما أن «كل طبقة من طبقات أهل العمران من مدينة أو إقليم، لها قدرة على من دونها من طباق، وكل واحد من الطبقة السفلى يستمد هذا الجاه من أهل الطبقة التي فوقه، ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده، على قدر ما يستفيد منه»([45])، «فإن فاقدي الجاه إذا اقتصروا على صنائعهم فإنهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر، ولا تسرع إليهم ثروة، وإنما يرمقون العيش ترميقاً»([46]).
– فئة وسطى تحظى بمكانة لدى أصحاب الجاه، تمكنها من تنمية تجارتها وصناعتها في مأمن من استغلال المستغلين وعدوان الظالمين.
– فئة أصحاب “الجاه المفيد للمال” الذين بيدهم الملك والسلطان أي أصحاب المهنة الثالثة من مهن المدينة بعد التجارة والصناعة أي “الولاية”.
وإذا كانت الحاجة إلى التعاون فرضت الاجتماع والتساكن، فإن الاجتماع والتساكن فَرَضَا إيجاد الوازع الذي يزع الناس، بعضهم عن البعض، الذي هو مصدر السلطة التي تتدرج من سلطة الأب في الأسرة، مروراً بسلطة مشاييخ الحي البدوي، ثم بسلطة رئيس العشيرة والعصبية البسيطة، إلى سلطة رئيس العصبية المتغلبة، إلى سلطة الملك القاهر.
والوازع منه داخلي هو سلطة الضمير الديني والأخلاقي، ومنه خارجي هو سلطة السلطان القاهر، وهذا الأخير، في رأي ابن خلدون، هو الطبيعي لأن من أخلاق البشر «الظلم والعدوان بعض على بعض»([47])، لأن الخير والشر طبيعتان في الإنسان «والشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده»([48]).
أما أهل المدن والأمصار فإن «عدوان بعضهم على بعض يدفعه الحكام والدولة… فهم مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم… وأما العدوان الذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار عند الغفلة أو الغرة ليلاً، أو العجز عن المقاومة نهاراً، ويدفعه ذياد الحامية من أعوان الدولة عند الاستعداد والمقاومة»([49]).
وأما أهل البدو فشيوخهم يزعون الاعتداءات الداخلية، وفتيانهم يزعون عنهم الاعتداءات الخارجية، يعتمدون في ذلك على عامل طبيعي هو «النعرة العصبية» المبنية على علاقة النسب، «والنعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، نزعة طبيعية في البشر»([50]) والولاء مثل النسب.
«ولما كان الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحش في القفر من العرب ومن في معناهم»([51])، و«كانت العصبية إنما تكون من النسب وما في معناه»([52])، فإنها خاصة بالبدو؛ «والرئاسة على أهل العصبية لا تكون في غير نسبهم»([53])، والرئاسة العامة على القوم لابد أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم الواحدة تلو الأخرى، وهي تركز مع النسب، على الحسب الذي هو الرفعة والشرف، وهو طارئ وغير دائم، بدايته عصامي يبني نفسه بنفسه، ونهايته في الرابع: المؤسس، ثم المشارك له، ثم المقلد، ثم المضيع ([54]).
والعصبية هي وسيلة التغلب، لذلك كانت الأمم الوحشية – لقوة العصبية فيها – أقدر على التغلب. ولا يزال صراع العصبيات يفرز الأقوى فالأقوى، حتى تبتلع العصبية الأقوى غيرها من العصبيات الواحدة تلو الأخرى، وعندها يصبح رئيسها مهيأ لتحويلها إلى ملك، لأن «الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك»([55])، وبتحول العصبية المتغلبة إلى ملك يتحول العمران من مادة خام إلى صورة كاملة هي الدولة، ويتحول رئيس العصبية إلى ملك قاهر لا يشاركه غيره في السلطة بخلاف رئيس العصبية الذي يتشارك أفراد عصبيته في كل شيء، وبذلك يتخلص الملك من أفراد عصبيته الأقربين الذين كانوا يضايقونه بمشاركتهم إياه في السلطة ويعوضهم بالمرتزقة، أي الأعوان الذين يعملون له مقابل أجور.
ويرى ابن خلدون أن لصورة العمران التامة عمراً كعمر الإنسان مداه 120 سنة، يمر بثلاثة أجيال:
1 – كفاح وبناء (= شباب)؛
2 – استبداد وترف (= كهولة ونضج)؛
3 – استسلام وتقهقر ونهاية (= شيخوخة).
وكل جيل من هذه يستغرق 40 سنة، وليس كل جيل منها متميزاً تمام التميز عن الجيل السابق أو اللاحق له، فهي ثلاثتها تمر بخمسة أطوار:
1 – طور الظفر والتغلب، والسلطة فيه ما زالت جماعية للعصبية؛
2 – طور الاستبداد وكبح جماح العصبية والتخلص منها واصطناع الموالي والخدم والمرتزقة بدلها؛
3 – طور الفراغ والدعة والعمران والبناء؛
4 – طور القنوع والمسالمة والتقليد؛
5 – طور الإسراف والتبذير والاختلاف والنهاية.
وهذه التحولات في نظر ابن خلدون طبيعية حتمية تتعلق بطبيعة نظام الملك، وذلك ما يدفع ابن خلدون إلى البحث عن أنظمة الحكم في الدولة التي يفرضها الاجتماع البشري، وهي في جوهرها وطبيعتها جائرة لأن «حقيقة الملك أنه الإجماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية»([56])، وبذلك «فأحكام صاحبه جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق، في أحوال دنياه، لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته»([57])، «إنما الملك في الحقيقة لمن يستبعد الرعية ويحمي الثغور ويجبي الأموال ويبعث البعوث ولا تكون فوق يده يد قاهرة» ([58])، فالتجنيد وجباية المال يقتضيان أن يكون القائم بهما يملك سلطة مطلقة، وأن يكون هو صاحب القرار الفصل، ولكن من الناحية الأخلاقية والأدبية، فإن الغاية الأصل هي وجود الوازع الذي يعدل بين الناس ويوفر لهم الأمن والطمأنينة فإذا كانت حقيقته، من حيث هو محتاج إلى القدرة على فرض أمره، تقتضي “التغلب والقهر” بل واستبعاد الرعية، فإن حقيقته من حيث الدافع والغاية هي أنه راع يقوم على رعيته، ويتكلف بأمورهم، لذلك «حقيقة السلطان أنه المالك للرعية القائم في أمورهم عليهم»([59])، ولما كان الاستعباد والقهر مخلين بالأمن والطمأنينة، وكانت أحكام الملك “في الغالب جائرة”، فإن الإنسان دأب منذ القديم على البحث عن «قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة وينقادون إلى أحكامها»([60])، وهذه القوانين إذا كانت «مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقلية»([61])، وإذا كانت «مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها، كانت سياسية دينية نافعة في الحياة الدنيا والآخرة»([62]).
بذلك تكون أصناف الملك التي استقرأها ابن خلدون من التاريخ ثلاثة: طبيعي، وسياسي، وشرعي.
فالطبيعي: هو «حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة»([63]).
والسياسي: هو «حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودافع المضار…»([64]).
والشرعي: هو «حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها»([65]).
أما نموذج المدينة الفاضلة الذي تحدث عنه الفلاسفة، فينفي ابن خلدون إمكانية دخوله في أصناف الحكم، لأن معناه «عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً»([66])، والمدينة الفاضلة مثالية «بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير»([67]).
ويرى ابن خلدون أن الحكم العقلي السياسي لم يوجد إلا عند قدماء الفرس، وهو استثناء، وكذلك الحكم الشرعي لم يوجد إلا في العصر الراشدي، وهو استثناء أيضاً، لأن الوازع فيهما داخلي، والوازع الداخلي لا يدوم.
أما الحكم الطبيعي الحقيقي فهو حكم الغرض والشهوة، وهو الموجود قديماً وحديثاً عند كل الأمم بمن فيها الأمة الإسلامية، مع محاولة المسلمين تقريبه ما أمكن من النظر الشرعي.
فهذا الحكم الطبيعي قائم على سياسة تراعي «مصلحة السلطان، وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة، وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً»([68])، وهو يقر «أن هذه السياسة (هي) التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر»([69])، ومع ذلك يدافع عن ملوك المسلمين بأنهم:
يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية، بحسب جهدهم، فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية، وقوانين في الاجتماع طبيعية، وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية، والاقتداء فيها بالشرع أولاً، ثم بالحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم([70]).
وبما أن الحكم الشرعي “الخلافة الراشدية” ظل المرجع المثال في البلاد الإسلامية، فإن نظرية الملك عند ابن خلدون ظلت تدور حوله، فالحاكم الشرعي هو الخليفة: خليفة المسلمين، أو خليفة الله، أو خليفة الرسول، حسب ثلاثة آراء، ابن خلدون يرجح الأخير، وهو يسمى الإمام، صاحب الإمامة الكبرى، في مقابل إمام الصلاة: الإمامة الصغرى، ويختلف المسلمون حول وجوب تنصيبه فالسنة والخوارج يتفقون حول وجود ثلاثة نماذج:
أولها ما فعله النبي r، حيث يرون أنه لم يوص لأحد، فاختار المسلمون من بعده خلفه.
والثاني ما فعله أبو بكر – رضي الله عنه – حيث أوصى للخليفة عمر.
والثالث ما فعله عمر – رضي الله عنه – حيث عين مجلساً يختار من بين أعضائه خليفة.
ولكن الفريقين يختلفان بعد ذلك، فالسنة يرون نصب الخليفة واجباً سواء بأي النماذج الثلاثة أخذ، أما الخوارج فيرون نصبه اختيارياً لا واجباً.
وأما الشيعة فلا يوافقون على صحة هذه النماذج الثلاثة، ويرون أن النبي r أوصى صراحة لعلي: وأن نصب الإمام واجب بل ركن من أركان الإسلام، وهو بالوصية، وواجب على كل إمام أن يوصى، فلا يجوز لنبي أو ولي إغفال الوصية.
وشروط الأهلية للمنصب عند السنة والخوارج: العلم والكفاية والعدالة وسلامة الحواس والأعضاء. ويختص السنة عن الخوارج بوجوب النسب القرشي، وإن كان ابن خلدون رد ذلك إلى العصبية، واعتبر أنه لم يعد شرطاً لأن العصبية انفرطت منذ زمن بعيد، أما الخليفة عند الشيعة فيعينه سابقه، وهما معصومان، ولذلك فالإمام (= الخليفة)، هو المرجع الديني والدنيوي وطاعته من طاعة الله.
وفي هذا التصنيف، وهذه المبادئ يقرأ ابن خلدون تطور الإمبراطورية الإسلامية، فقد كانت في البداية خلافة شرعية «وازع كل أحد فيها من نفسه، وهو الدين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم، وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة»([71])، ولم يدم الأمر أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، إذ صار الأمر إلى الملك([72])، ولكن ابن خلدون يرى أنه «بقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه، والجري على منهج الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً»([73])، ولكن هذا التحري لم يدم طويلاً فلم يتجاوز عهد أبناء الرشيد العباسيين أي بداية القرن الثالث الهجري. هكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة، ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر ملكاً بحتاً، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات ([74])، فتحول الأمر حينئذ إلى الملك القاهر الذي يحمل الناس على مصلحة السلطان دون مراعاة غيره، فكانت فترة الخلافة الراشدية فترة الظفر والبناء، وفترة الملك من معاوية إلى المتوكل، كانت فترة الاستبداد، ثم من مقتل المتوكل سنة 247، بدأت مرحلة التقهقر، وإن كان هذا استغرق أكثر من قرنين فلأنه ظهرت خلاله دول واختفت أخرى: الدولة الراشدية، الأمويون، العباسيون قبل تغلب الأتراك.
والعمران والدولة يتفاعلان تأثراً وتأثيراً، ففي طور الصعود تزدهر عوارض العمران أي الأنشطة، وتتأثر وتؤثر، فكثرة الناس في المدن من كثرة الولادات، وإقبال الناس على المدينة ينشأ عنه نمو النشاط والخدمات، ويؤثر في الأسعار وكثرة الحبوب والأقوات، وكل هذه يؤثر بعضها على بعض، فتتعقد وتزداد اتساعاً حتى تصل إلى درجة يختل فيها التوازن فتظهر بعض المؤثرات التي تنبئ بالأخطار التي تهدد ذلك المجتمع، فإما أن تبلغ الأسعار درجة يتبعها عجز قسم من السكان عن تحصيل الأقوات، وإما أن تنخفض الأسعار حتى يكون الصناع عاجزين عن الإنتاج لكساده، أو تنقلب كثرة السكان إلى مفسدة، فتنشأ الأوبئة والمجاعات، أو تقبض الضرائب والظلم والنفوس عن العمل لأن الضرائب والظلم تمنعهم من جني ثمار عملهم فيتركون أعمالهم هرباً من استغلال الولاة المتعودين على التبذير، وعوائد الترف التي تستشري عند استفحال الحضارة وهرم الدولة، فتصبح سوساً ينخر هذه الحضارة، ذلك «أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره، وأنها مؤذنة بفساده»([75]).
تتحكم إذا، في تطور الحياة البشرية – في رأي ابن خلدون – مجموعة من الضرورات الطبيعية التي تحركها قوانين الطبيعة، ولكنها تتفاوت في سيطرة العامل الطبيعي عليها، فهو يسيطر سيطرة شبه كاملة على مرحلة العمران البدوي، ولكنه يترك لحد ما مكانه للعامل الثقافي في مرحلة العمران الحضري. وفي كلتا المرحلتين فإن سلسلة من الضرورات تتحرك في شكل دائرة مغلقة يؤدي آخرها إلى أولها. فالحاجة الغريزية إلى المأكل والمشرب والمسكن وبقاء النوع تخلق الحاجة إلى التعاون، والحاجة إلى التعاون تخلق الحاجة إلى الاجتماع للعمران، والاجتماع يخلق الحاجة إلى الوازع، والوازع يخلق الحاجة إلى العصبية للشوكة والتغلب، والعصبية والتغلب يخلقان الحاجة إلى الملك والاستقرار، والملك يخلق الحاجة إلى الاستبداد، وتقويض العصبية، ورجحان كفة العامل الثقافي على حساب العامل الطبيعي، والاستبداد يخلق الحاجة إلى الإسراف في الإنفاق على الكماليات ودواعي الترف، وبالتالي ازدهار التجارة والصنائع واستفحال الحضارة من جهة، وكثرة الضرائب شيئاً فشيئاً على المنتجين لتلبية مطالب حاشية الملك المترف من جهة أخرى، واستفحال الحضارة، وما يحمل من إنفاق وتنافس في الكماليات، يستنزف ثمار ما تنتجه الفئات الممولة لبيت المال، فيقبضون أيديهم عن إنتاج، لم يعودوا يستفيدون من ثماره، وينتشر القهر والظلم المؤذن بخراب العمران، فيفلس بيت المال شيئاً فشيئاً، فتنهار الدولة، وتبدأ دولة أخرى على أنقاضها، ولهذا كانت الحضارة مفسدة العمران.
تلك هي الدورة الطبيعية للعمران البشري حسب ما قرأها ابن خلدون، من التاريخ الإسلامي عامة ومن تاريخ المغرب الإسلامي خاصة، وهي لا تنطبق على التاريخ العام للأمم، ولكنها في رأيه، تنطبق على التاريخ الخاص بإقليم بعينه أي منطقة بعينها، كما حدث في الدول المرابطية والموحدية والمرينية المتعاقبة على الكرسي في المغرب الأقصى مثلاً:
فالتاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل، فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس المؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره ([76]).
– منهج نقد الخبر
تتبعنا في الفقرة السابقة حركية العمران البشري المترتب على الاجتماع الإنساني بدافع الحاجة إلى التعاون والحاجة إلى الوازع حسب تصور ابن خلدون. مع ما لا مناص منه في مقام كهذا، من الاختزال المخل، وهي الحركية التي رآها المحرك الطبيعي للتاريخ الإنساني والفاعل في أحواله وظواهر، وبالتالي تمثل الثقافة الضرورية لمؤرخ يروم أن يقرأ الماضي قراءة يركن إليها العقل ويقبلها المنطق. وعدم وجود هذه الثقافة عند المؤرخ هو أهم الأسباب التي قادت الكثير من المؤرخين إلى ارتكاب أخطاء شنيعة قوضت مصداقية التاريخ كعلم عقلي ومنطقي، وإلى هذا السبب تعود الأسباب الأخرى كلها: كالتحيز والإغراض أحياناً نتيجة لمواقف إيديولوجية أو عقدية، وكالوثوقية المتأتية من غياب روح النقد. وكالذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام([77])، فبما أن هذا التبدل لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد([78])، ولذلك يلح ابن خلدون على «أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر»([79])، فهي تختلف من زمن لآخر، ومن ظرف لآخر. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول([80]).
ويعلل ابن خلدون ذلك بأن كل دولة جديدة أو نظام جديد لابد أن يأخذ شيئاً من سابقه، كما لابد أن يضيف شيئاً جديداً من عنده، وبتعاقب الدول والأنظمة في الزمان، يبتعد اللاحق عن السابق حتى يختفي أي تأثير للسابق على اللاحق، فتبدو الأحوال وقد تبدلت جملة «فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث»([81]).
وكل أسباب الغلط هذه ترجع في مجملها إلى السبب الأول: الجهل بطبائع الأحوال في العمران.
وابن خلدون بالرغم من أنه سبق أن قال إن «الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء»([82])، وبالرغم من وصفه السابق كذلك لآلية حركة العمران البشري وطبيعته، فإنه لا يزال يلح على أن حركة العمران البشري حركة معقدة جداً، لأنها، وإن حكمتها هذه الآلية التي وصف ضوابطها وقواعدها، فإن الإنسان هو الفاعل فيها، والإنسان لم يكن قط ولن يكون، ولا يمكن أن يكون، آلة مبرمجة كالربو، بل هو من التعقيد بحيث لا يمكن أن يحدد مسار لتصرفاته ونزعاته وأهوائه في الزمن الواحد، فما بالك به على امتداد الزمن وفي أنحاء المعمورة، واختلاف الظروف، فلابد إذن للمؤرخ الحقيقي من الإحاطة بكل الظروف والأزمنة والأمكنة، وفوارقها ومختلف التجارب البشرية عبرها، ليمارس نظره وقياسه على وعي بكافة الظروف الزمانية والمكانية والنفسية المحيطة بالحدث، فهو إذاً مدعو إلى العلم بقواعده السياسية وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك، مماثلة ما بينه وبين الغائب، أو… ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملك ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها، وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصل كل خبر([83]).
فليس العلم بقواعد السياسة وطبائع العمران على نحو ما عرض في الفقرة الثانية من هذا العرض، وصفة جاهزة، تطبق على كل موجود وكل حادث، فلكل أمة خصوصيات، ولكل عصر خصوصيات: في السير والأخلاق والعوائد، في النحل والمذاهب، وفي كل الأمور، فلابد للمؤرخ الجاد من المعرفة الدقيقة للأمة موضوع النظر، في حاضرها، وفي ماضيها، ومقارنة ما بينهما من تماثل، وما بينهما من اختلاف، والتفطن الذكي لأسباب الاتفاق والاختلاف، هذا فيما يعني التحولات الاجتماعية عموماً، أما فيما يعني التحولات السياسية خصوصاً، فلابد فيه، زيادة على العملية السابقة، من الاطلاع التام على عوامل نشوء الدولة: أصول تلك العوامل وأسبابها ودواعيها وأحوال المؤسسين لها والمسيرين، لتعرف دوافعهم، وأسباب تصرفاتهم.
وبهذا يستطيع المؤرخ “معرفة أسباب” كل حادث معرفة مؤسسة على استيعاب شامل لكافة الظروف المساهمة في وقوعه على دراية بأصل كل خبر، وما يمكن أن يكون فيه من الصحيح، وما يمكن أن يقع فيه من التزييف.
فإذا تمت له هذه المعرفة الشاملة بدقائق أسباب الحوادث الفاعلة فيها، وغاياتها الموجهة لها، فلابد أن يقوم بعمله الذي يميزه عن العامة، ويجعل منه صيرفياً ماهراً لمادته، «حينئذ يعرض خبره المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً وإلا زيفه واستغنى عنه»([84]).
والخبر هو بيت القصيدة في عمل المؤرخ لذلك يفرق ابن خلدون بين نوعين من الخبر:
– الخبر: الذي هو تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها([85])، والتأكد من صحتها وضبطها يرجع إلى «الثقة بالرواة بالعدل والضبط»([86]).
– الخبر: الذي هو «إخبار عن الواقعات»([87]) والتأكد من صحته يرجع قبل كل شيء إلى «اعتبار المطابقة»([88]) أي إمكانية أن توجد في الواقع العادي واقعة مطابقة للواقعة التي يرويها الخبر «فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعها، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدماً عليه»([89])، وهو يعلل ذلك بأن «فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة»([90]).
ففي الخبر التكليفي الذي هو في حقيقته إنشاء: أمر أو نهي، لا يهم في الدرجة الأولى أهو معقول؟ – وإن كان «من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل»([91]) – لأن التعديل أو التجريح هو «المعتبر في صحة الأخبار الشرعية»([92]).
أما الإخبار عن الواقعات فالتمحيص «لتمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه»([93])، أمر يجب أن يكون «سابقاً على التمحيص بتعديل الرواة»([94])، بل إنه يلزم أن «لا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع»([95])، فإذا كان مستحيلاً عقلاً «فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح»([96]).
هذا التمحيص البرهاني يقوم على قانون يرجع إليه العقل فيما يقبل وفي ما يرد، هو:
قانون القياس المستند إلى معرفة دقيقة للقوانين الطبيعية المتحكمة في أحوال الاجتماع البشري وتجسيد هذا الاجتماع الصوري الذي هو عمران العالم، أي “طبائع العمران” التي تمكن المؤرخ من تمييز ما يلحق هذا العمران من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له([97]).
فالحادثة التاريخية هي – في رأي ابن خلدون – «لا تنفصل عن الأسباب العامة التي تحدد حدوثها، مما يعني أن معرفتها تستوجب معرفة تلك الأسباب العامة»([98]).
فإذا توفرت للمؤرخ معرفة الأسباب كما تفسرها طبائع العمران التي «ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار»([99])، فإنه حينئذ يبدأ ممارسته النقدية التي يكون فيها عقله وبصيرته هما المعيار الأول «فالناقد البصير قسطاس نفسه»([100]).
فعملية نقد الخبر قائمة على ركنين: ركن العلم: علم العمران، وما يوفره من أدوات لفهم الخبر؛ وركن البصيرة التي تستطيع تمييز المطابق من غير المطابق، والممكن من المستحيل، والجوهر من العرض، فهو «يملي وينقل، والبصيرة تنفذ الصحيح إذا تنقل، والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل»([101])، مفتشاً عن “أسباب” الواقعات، «باحثاً عن المقنع في تبيانها أو تناسبها»([102])، فبتضافر هذين الركنين يتمكن المؤرخ من «تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه»([103])، فلا يكفي إذاً أن نلقي بالمسؤولية على الراوي فنقول كما قال ابن جرير الطبري([104]) في مقدمة موسوعته “تاريخ الأمم والملوك”([105]):
فما يكون في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت من ذلك من قبلنا، وإنما أوتي من قبل ناقليه، وإنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا.
وهذا الاعتذار قد يقبل في رأي ابن خلدون مثله من راوي الخبر “الإنشاء”، باعتبار أن صحة النقل فيه هي المعول عليها، أما في الإخبار عن “الواقعات”، فإنه غير مقبول، لأن المعول عليه فيها هو مدى مطابقتها لما يحدث في الواقع: أو ما يقبل العقل وقوعه، أما ما “يستنكره” العقل أو يستشنعه، أو لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فإنه لا يقبل من المؤرخ إيراده، ولا روايته، فإذا كان هذا يحدث في عمل أحد فحول المؤرخين في العصر الإسلامي… “كابن جرير الطبري”([106]) وأحد الذين «ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة»([107])، ولم يتهمه ابن خلدون كما اتهم المسعودي([108]) والواقدي([109]) بأن «في كتبهما من الطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات، ومشهور بين الحفظة الثقاة»([110])، فما بالك بمن جاء بعد هؤلاء من كل «مقلد، وبليد الطبع والعقل أو متبلد، ينسج على ذلك المنوال، ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال»([111])، وذلك ما عاد على فن التاريخ بالوبال، فـ«صار انتحاله مجهلة، واستخف العوام ومن لا رسوخ له في المعارف، مطالعته وحمله والخوض فيه والتطفل عليه، فاختلط المرعى بالهمل، واللباب بالقشر، والصدق بالكذب»([112])، إذاً، فإن المؤرخ الرصين الذي يربأ بنفسه عن أن يسيء إلى فنه قبل أن يسيء إلى نفسه، عليه، عند تلقي الخبر، أن يطرح السؤال: هل يوافق هذا الخبر طبيعة العمران؟ أي هل هذا الخبر ممكن؟ فإذا رأى أنه ممكن الوقوع، كما هو شأن زواج العباسة من البرمكي([113])، فعليه أن يسأل نفسه، هل هذا ممكن الوقوع؟ باعتبار الموانع الاجتماعية: بنت الخليفة، وأخت الخليفة، أيحتمل أن تتزوج بالمرمكي الذي يعتبر أحد موالي القصر؟ وبعد ذلك يسأل ألا يكون هذا داخلاً في الحملة الشعوبية العروبية، ويكون ناشره يقصد إلى الرفع من شأن البرمكي والغض من شأن الرشيد؟ هل يرجح هذا أنه وقع أم أنه لم يقع؟ ثم يخلص بعد ذلك إلى رأي حاسم: ممكن ومحتمل ومرجح، فهو واقع، أو هو ممكن لكنه غير محتمل فهو مرجوح، وبالتالي لم يقع، لاستبعاد الغفلة والتشيع والتحيز والانتحال عن الراوي في الأول أو لاتهامه بها في الثاني، هذا إذا كان الخبر ممكن الوقوع في الحالتين حسب منطق المطابقة المذكور من قبل، أي مطابقته لطبيعة العمران البشري، وما يعرض فيه من الوقائع، أما إذا لم يكن ممكناً أصلاً، كما هو الحال في غوص الاسكندر داخل صندوق موصد في البحر، فلا أهمية لموقف الراوي لأن الواقعة مستحيلة أصلاً حسب قوانين الطبيعة المتاحة حتى عهد ابن خلدون.
ويبدو مفهوم المطابقة عند ابن خلدون قريباً جداً منه في نظرية المطابقة كما صاغها (والتش) في كتابه مدخل لفلسفة التاريخ:
نقول بأن عبارة صحيحة، إذا طابقت الوقائع (…) ونقول بعكسها، أي أنه إذا لم تطابق الوقائع، فهي غير صحيحة، وعليه تبدو لنا الحقيقة ومطابقتها للوقائع اصطلاحين مترادفين، يمكن التعبير بأحدهما عن الآخر. ولكن ما هي الوقائع؟… هي التي نصفها بقولنا الصلبة، الثابتة أو المعطاة([114]).
هذا التطابق بين النظرية الخلدونية ونظرية (والتش) الحديثة في مفهوم المطابقة، هو ما دفع باحثة إلى القول:
دخل ابن خلدون فلسفة التاريخ من أوسع أبوابها، بدأ بالأخبار وطرق استخلاص الحقيقة منها بعد تمحيصها، فجاء بما لم يجيء به أحد من قبله، بعمق وشمول بالغين، ولو قدر له أن يلقي محاضرة عن الحقيقة التاريخية الآن لما احتاج إلى تعديل يذكر في مفهومه واصطلاحه([115]).
ومهما يكن من أمر فإن المفهومين الأثيرين في المنهج التاريخي الحديث؟ “الوثيقة” و”الأصل” ظلا غائبين، وإن كان أورد كثيراً كلمة أصل، إلا أنه لا يفهم من السياقات التي وردت فيها أنها تلتقي مع مفهوم الأصل في المنهج التاريخي الحديث، أما الوثيقة فلا أثر البتة لها، بل إن الخبر مرتبط بالرواية الشفهية، وبما يرويه المؤرخون في كتبهم. فإذا كانت المفاهيم: الخبر، الوقائع، المطابقة، حاضرة عنده بألفاظها ومفاهيمها الحديثة، وكان التماسك حاضراً بمفهومه دون لفظه، فإن الأصل حاضر بلفظه دون مفهومه، والوثيقة غائبة بلفظها ومفهومها.
* * *
وبعد: من هذه القراءة تتجلى بشيء من الوضوح رؤية ابن خلدون: فهي تقوم على:
كشف مسار واضح لتطور الاجتماع البشري، وللعوامل الفاعلة فيه، من حاجات فطرية، تفرض منطقها وتطورها طبقاً لعوامل الزمان والبيئة، وهي العوامل التي يسيطر فيها العامل الطبيعي في مرحلة أولى، أي مرحلة العمران البدوي، ويسيطر فيها العامل الثقافي في مرحلة ثانية، هي مرحلة العمران الحضري.
تحديد وظيفة للتاريخ هي: القراءة النقدية الواعية للفعل الاجتماعي للإنسان، قراءة مرجعها الأول هو العقل، ومنهجها هو القياس: قياس الغائب على الشاهد، والشاهد على الغائب، اعتماداً على مبدأ المطابقة: مطابقة لما وقع، وما يمكن أن يقع، اعتماداً على منهج فلسفي وضعي دقيق بمقاييس فلسفة العلوم المعروفة حتى عصر ابن خلدون.
وإضافة إلى هاتين المسألتين الأساسيتين:
استعرض ابن خلدون خلال قراءته للاجتماع البشري نظريات كثيرة، مثل كروية الأرض والعلاقات بين العوالم الثلاثة: الحيوانات، والنباتات، والجمادات، وتأثير البيئة ونمط المعيشة على الإنسان، وغير هذا من القضايا التي اعتبرت في العصر الحديث نظريات جديدة عندما تم البرهان عليها برهاناً علمياً، فصارت ركائز لفلسفات أثرت كثيراً في الفكر الحديث (خاصة المادية التاريخية، ونظرية النشوء والارتقاء).
سبعة قرون مضت على مقدمة ابن خلدون، ومع ذلك لم تزل جديدة وفريدة في الثقافة العربية خاصة، وفي الثقافة العالمية عامة، ومع تغير ظروف العالم العربي الإسلامي الذي وصفت “المقدمة”، فإنها ما زالت مدخلاً صالحاً لقراءة هذا العالم، بشرط مراعاة اختلاف المحيط الجيواستراتيجي، والرمزي وتطورهما.
هذا الكتاب أيضاً موسوعة ضمت عصارة تجارب الإنسان عبر الماضي إلى عصر ابن خلدون، في تعامله مع الإنسان، والطبيعة، وما وراء الطبيعة. وهو قراءة موضوعية لكتاب الحياة، بتجرد نادر في عصره.
من هنا لا نجد غرابة في أن يكون هذا الكتاب أكثر الكتب العربية ذيوعاً وشهرة في العالم أجمع، فقد تجاوزت الدراسات المكتوبة عنه أكثر من ثلاثمائة دراسة في أهم اللغات والحضارات، كما ترجم نصه إلى العديد من اللغات، وأنشئت له كراس خاصة في أكبر الصروح العلمية… منذ أكثر من قرن وما تزال قائمة حتى الآن.
----------------
مراجع
([1]) هو ولي الدين عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن أبي بكر محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون. ولد بتونس فاتح رمضان 732 ﻫ/ 25 مايو 1332 م، من عائلة عربية أصلها من حضر موت، دخل جده خلدون بن عثمان إلى الأندلس، واستقر بإشبيلية، وكان لأسرته من بعده بها شأن سياسي ومعرفي، ثم خرجت منها إبان الاحتلال الإسباني لها، وذلك سنة 648 ﻫ/ 1248 م، واستقرت في مدينة تونس إبان حكم أبي زكرياء الحفصي 625-647 ﻫ، وكان لأفراد منها شأن في الدولة الحفصية توارثوه، ولم يتخل منهم عن ذلك الدور السياسي غير الوالد المباشر لابن خلدون الذي تفرغ للعلم وحده، وفي كنفه تربى ابن خلدون وتعلم منه.
([2]) ترك ابن خلدون عدة مؤلفات من أبرزها: “لباب المحصل في أصول الدين”، طبع سنة 1952 بتطوان المغرب؛ كتاب “العبر” بأقسامه الثلاثة: (المقدمة وقد طبعت عشرات المرات؛ أخبار العرب وأجيالهم؛ أخبار البربر ومن إليهم. وقد طبع الأخيران بعنوان “تاريخ ابن خلدون” في سبعة مجلدات عدة طبعات). شفاء السائل في التصوف، طبع باسطنبول 1958.
اهتم الدارسون بابن خلدون و”مقدمته” قديماً وحديثاً في مختلف اللغات، وبلغت الأعمال المنشورة عنهما في العصر الحديث ما يناهز ثلاثمائة مؤلف حتى الآن. (راجع ترجمة كاملة في كتاب “التعريف” المذكور وفي “دائرة المعارف الإسلامية” وفي “ديباجة” الطبعة التونسية للمقدمة، 1985).
([3]) سماها: “كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
([4]) ابن خلدون، المقدمة، الدار التونسية، تونس، 1984، ج 1، ص. 30.
([5]) المصدر نفسه والصفحة.
([6]) المصدر نفسه.
([7]) المصدر نفسه.
([8]) المصدر نفسه.
([9]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 30.
([10]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 67 وما بعدها.
([11]) المصدر نفسه، ص. 62.
([12]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 33.
([13]) المصدر نفسه، ص. 70.
([14]) المصدر نفسه، ص. 32.
([15]) المصدر نفسه، ص. 67.
([16]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 31.
([17]) المصدر نفسه، ص. 30.
([18]) المصدر نفسه والصفحة.
([19]) المصدر نفسه والصفحة.
([20]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 37.
([21]) المصدر نفسه، ج 1، ص 77.
([22]) المصدر نفسه، ص. 63.
([23]) بعد تقديم موجز لمحتوى الكتاب، ثم “مقدمة في علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، والإلماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها”.
([24]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 39.
([25]) الأولى: «في أن الاجتماع للإنسان ضروري». الثانية: «في قسط العمران من الأرض، والإشارة إلى بعض ما فيه من البحار والأنهار والأقاليم». الثالثة: «في المعتدل من الأقاليم والمنحرف وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم». الرابعة: «في أثر الهواء في أخلاق البشر». الخامسة: «في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم». السادسة: «في أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو بالرياضة، ويتقدمه الكلام في الوحي والرؤيا».
([26]) ابن خلدون، المقدمة، المصدر السابق، ج 1، ص. 77.
([27]) المصدر نفسه، ص. 167.
([28]) المصدر نفسه، ج 2، ص. 413.
([29]) المصدر نفسه، ج 2، ص. 459.
([30]) ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر، بيروت، ط. 1، 2003، ص. 412.
([31]) ابن خلدون، المقدمة، المصدر السابق، ج 1، ص. 74.
([32]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 165.
([33]) المصدر نفسه، ص. 192.
([34]) المصدر نفسه، ص. 166.
([35]) المصدر نفسه، ص. 192.
([36]) المصدر نفسه، ص. 167.
([37]) المصدر نفسه، ص. 197.
([38]) المصدر نفسه.
([39]) المصدر نفسه، ص. 168.
([40]) المصدر نفسه، ص. 173.
([41]) المصدر نفسه، ص. 166.
([42]) المصدر نفسه.
([43]) المصدر نفسه، ص. 167.
([44]) المصدر نفسه.
([45]) المصدر نفسه، ج 2، ص. 471.
([46]) المصدر نفسه، ج 2، ص. 471.
([47]) المصدر نفسه، ص. 173.
([48]) المصدر نفسه.
([49]) المصدر نفسه.
([50]) المصدر نفسه، ص. 174.
([51]) المصدر نفسه، ص. 175.
([52]) المصدر نفسه، ص. 174.
([53]) المصدر نفسه، ص. 178.
([54]) المصدر نفسه، ص. 183.
([55]) المصدر نفسه، ص. 185.
([56]) المصدر نفسه، ص. 243.
([57]) المصدر نفسه، ص. 243.
([58]) المصدر نفسه، ج 1، صص. 241-242.
([59]) المصدر نفسه، ص. 241.
([60]) المصدر نفسه، ص. 243.
([61]) المصدر نفسه.
([62]) المصدر نفسه.
([63]) المصدر نفسه، ص. 244.
([64]) المصدر نفسه.
([65]) المصدر نفسه، ص. 244.
([66]) المصدر نفسه.
([67]) المصدر نفسه، ص. 368.
([68]) المصدر نفسه.
([69]) المصدر نفسه.
([70]) المصدر نفسه.
([71]) المصدر نفسه، ص. 262.
([72]) المصدر نفسه.
([73]) المصدر نفسه.
([74]) المصدر نفسه، ص. 263.
([75]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 448.
([76]) المصدر نفسه، ص. 59.
([77]) المصدر نفسه.
([78]) المصدر نفسه.
([79]) المصدر نفسه.
([80]) المصدر نفسه.
([81]) المصدر نفسه.
([82]) المصدر نفسه.
([83]) المصدر نفسه، ص. 58.
([84]) المصدر نفسه.
([85]) المصدر نفسه، ص. 70.
([86]) المصدر نفسه.
([87]) المصدر نفسه.
([88]) المصدر نفسه.
([89]) المصدر نفسه.
([90]) المصدر نفسه.
([91]) المصدر نفسه.
([92]) المصدر نفسه.
([93]) المصدر نفسه.
([94]) المصدر نفسه.
([95]) المصدر نفسه.
([96]) المصدر نفسه.
([97]) المصدر نفسه.
([98]) ناصيف نصار، الفكر الواقعي عند ابن خلدون، دار الطليعة، بيروت، ط. 2، 1985، ص. 154.
([99]) ابن خلدون، المقدمة، المصدر السابق، ص. 31.
([100]) المصدر نفسه.
([101]) المصدر نفسه.
([102]) المصدر نفسه، ص. 33.
([103]) المصدر نفسه، ص. 70.
([104]) محمد بن جرير الطبري (224-310 ﻫ) له كتاب تاريخ الطبري المعروف بـ “كتاب الأمم والملوك”.
([105]) ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، الطبعة المصرية، ج 1، ص. 7، نقلاً عن محمد عبد الجابر، العصبية والدولة، دار الطليعة، بيروت، ط. 3، 1982، ص. 145.
([106]) ابن خلدون، المقدمة، المصدر السابق، ج 1، ص. 30.
([107]) المصدر نفسه، ج 1، ص. 31.
([108]) علي بن الحسين (261-346) حفيد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، رحالة ومؤرخ له كتب عديدة منها: مروج الذهب ومعادن الجوهر والاستذكار لما جرى في سائر الأمصار.
([109]) محمد بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي من مواليد المدينة المنورة في القرن الهجري الثاني، توفي 210 ﻫ، له “فتوح الشام”، و”التاريخ والمغازي”، وكتاب السير…
([110]) المصدر نفسه، ص. 31.
([111]) المصدر نفسه، ص. 58.
([112]) المصدر نفسه.
([113]) المصدر نفسه.
([114]) W.H. Walsh, Introduction to philosophy of History y, Lindon, 1951, pp. 73-74.
([115]) زاهية قدور، «ابن خلدون والحقيقة التاريخية»، مقال في مجلة المؤرخ العربي، ع 1، 1975، بغداد.
* جامعة عجمان للعلوم والتكنولوجيا الفجيرة/مجلة”التاريخ العربي”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق