أحدث الموضوعات
recent

شارع "كلوت" بك !


د. عاطف معتمد

في عام 2009 سافرت بالقطار إلى مدينة "جرينوبل" قادما من "ليون". تعد ليون نقطة وسطى تبلغك هضبة "الماسيف سنترال" بالاتجاه غربا، وتوصلك إلى جبال الألب بالاتجاه إلى الحدد السويسرية والإيطالية شرقا.

الصعود إلى "جرينوبل" في قلب جبال الألب الفرنسية يحقق لك منافع عدة، أولها أن ترى من بعيد أحد أشهر الجبال في أوروبا "مون بلون" (الجبل الأبيض) المشهور في خرائطنا المدرسية بتحريفه إلى "مونت بلانك".

يستمد الجبل الأبيض هنا اسمه من قبعة الجليد الضخمة التي تغطى رأسه، وتحت القبعة الضخمة صخور رسوبية كانت في الأصل جزء من قاع بحر تيثس العظيم. وبياضه هنا ليس بياض الجرانيت الفاتح الذي دعا أهلنا البشارين في حلايب في جنوب شرق مصر لأن يطلقوا لونه على “الجبل الأبيض” فيسمونه بلغتهم "إلبا" ونحرفه نحن في كتب المدرسة والجامعة إلى "عِلبة"، ثم يتمادى البعض في التحريف بوضع ضمة على العين فيصبح الاسم - في خطأ جسيم -  "عُلبة".

يقف "مون بلون" خلف الحد الفرنسي-الإيطالي، وبدرجة ما يمثل نقطة التقاء الحدود الثلاثية "السويسرية- الإيطالية – الفرنسية" في نموذج مشابه لحالة جبل "العوينات" عند التقاء الحدود الثلاثية "المصرية –الليبية – السودانية".

يظل الجبل الأبيض يشاغلك كلما تعرج القطار والتف بين المنحدرات إلى أن تجد نفسك وصلت فجأة ودون سابق إنذار إلى محطة جرينوبل . 

جرينوبل مدينة ذات شخصبة مميزة للغاية، بها آثار من الثقافة الإقليمية وروح جبال البحر المتوسط، وفيها أيضا تقاليد عسكرية وأدلة من تاريخ الصراع الشهير بين فرنسا وإيطاليا، ولأننا هنا في جبال الألب ذات الصخور الرسوبية الصلدة فلديك فرصة لتفقد كهوف ومغارات بديعة يزورها الناس الآن للاستجمام والاستمتاع طامحين إلى مشهد عبقري من الجبل إلى خانق نهر الرون.

 في هذه المدينة الرائعة المعلقة في الجبل ولد "أنطوان بارتميلي كلوت" الذي سيشتهر في مصر لاحقا باسم "كلوت بك" بعد أن منح لقب البكوية، وهو بالمناسبة لقب ظهر منذ القرن العاشر الميلادي مع أتراك آسيا الوسطى ويعني "السيد". 

اسمه الأول "انطوان" وهو اسم مشهور من أيام الرومان (هل نذكر في مصر مارك أنطونيو؟) ولنا في مصر أيضا قديس شهير في الصحراء الشرقية يحمل اسم الأنبا "أنطونيو" ويتوسط طريق الصحراء بين بني وسيف غربا والزعفرانة شرقا. 

أما اسمه الثاني "بارتميلي" فترجعه بعض المصادر إلى اسم ورد في الإنجيل منسوبا للشهيد "بَرْثُولَمَاوْس".  

ومع ذلك فإن اسم عائلته "كلوت" هو الأشهر وهو الذي يحمله إلى اليوم أحد أشهر شوارع  القاهرة.

وتشير القواميس المتوفرة حاليا في عالمنا الرقمي إلى أن "كلوت" اسم من أصل ألماني لكلمة "كلوتس Klotz"  والتي لها معان كثيرة من بينها رجل "ضخم الهيئة".

ولد كلوت بك في جرينوبل في عام 1793 أي قبل 5 سنوات من حملة نابليون على مصر، وكان أبوه ضابطا في الجيش الفرنسي وشارك في الحملة العسكرية على إيطاليا ولم يستطع المشاركة في الحملة على مصر.

تعلم الابن أنطونيو تعليما أساسيا واهتم بالطب، ومن الطريف أنه بدأ حياته العملية حلاقا للقرية على الطراز الذي عرفناه في ريفنا المصري حتى منتصف القرن الماضي، وتمكن من أن يواصل دراسته للطب حتى حصل على دبلوم في الصحة من مدينة مونبليه في عام 1820 ومارس عمله 5 سنوات أخرى حتى عام 1825. 

في هذا التاريخ كان محمد علي باشا قد رسخ حكمه في مصر بعد 20 سنة من توليه السلطة، كان الباشا مفتونا بالخبراء الفرنسيين لبناء الجيش والأسطول ونقل مصر إلى حالة جديدة بعد سنوات التأخر على يد المماليك المقنعين بحكم عثماني.

حين أصبح "كلوت" طبيبا شابا لا يزيد عمره عن 32 سنة تلقى عرضا للسفر إلى مصر للعمل في خدمة الباشا، وكان اللقب الذي ينتظره "جراح باشي".

قصة كلوت بك في عالم الطب في مصر معروفه، ولم يستدعه محمد علي للاهتمام بصحة المصريين في البداية بل بصحة العساكر لضمان جيش قوي صحيح البنيان. وقد قدم كلوت بك خدمات جليلة حتى وفاته في عام 1868. 

وحين عاد الخديوي إسماعيل من رحلته إلى باريس متأثرا بالعمارة فيها وقرر تأسيس القاهرة الباريسية أمر بتطوير حي الأزبكية وأنشا دار الأوبرا وحي الإسماعيلية وشق بينهما شوارع رئيسية، وتكريما للخدمات الجليلة التي قدما الطبيب الفرنسي أمر اسماعيل بمنح اسم "كلوت بك" لأحد الشوارع الكبرى التي تربط بين حي الأزبكية وباب الحديد.

من سوء حظ كلوت بك أن الشارع الذي يحمل اسمه كان حلقة وصل إلى حياة اللهو والخمور والدعارة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

 فبعد أن أسس اسماعيل الحي الباريسي وقع الاحتلال البريطاني في عهد ابنه توفيق  وزاد توافد الأجانب على مصر ونشطت الشركات ورجال الأعمال من الأجانب وصعدت معهم طبقة متوسطة من المصريين الذين ارتبطوا بهم في القطاع التجاري والمالي والخدمي.

وبشكل تدريجي وقع تلازم لفظي بين اسم الشارع وحي الدعارة في الأزبكية وبالتدريج نسي الناس دور "كلوت" بك في الطب والجراحة ومقاومة الأمراض في مصر. 

كانت بيوت الدعارة في الأزبكية تضم نساء من جنسيات من السودان والنمسا والمجر والبلقان وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليونان، ولم تدخل المصريات المجال إلا في فترة متأخرة لأن كل هؤلاء كن يبعن المتعة للأجانب في المقام الأول. 

كيف رأي كلوت بك بلادنا في كتابه الشهير "لمحة عامة إلى مصر"؟ ..

لعلنا نجيب في مقال جديد بإذن الله

زقاق النت

زقاق النت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.