محمد صالح الفتيح
منذ يومين، وخلال النقاش في مجلس النواب اللبناني، قال رئيس الحكومة (المكلف) نجيب ميقاتي إن موازنة هذا العام 2022 (التي لم تقر بعد) ستكون واحد مليار دولار فقط وذلك بالمقارنة مع 17 مليار دولار (وأحياناً أكثر) اعتادت الحكومات اللبنانية على إنفاقها (حتى في مطلع الأزمة المالية الحالية). قسم مهم من تلك الموازنات كان يمول بالديون وبالمنح الدولية. ولكن الآن "بح" لا ديون ولا منح دولية، ولا مال سياسي لدعم هذا الطرف أو ذاك. لا يوجد في المنطقة حالياً من يرى أن لبنان يستحق المليارات التي كانت تنثر عليه كل عام.
وفي مصر تتابع الحكومة تخفيض قيمة الجنيه المصري (خلال ستة أشهر انخفض من 15.5 إلى 19.5 (أي 25% حتى الآن) وسنشهد على الأرجح المزيد من التخفيض في الفترة المقبلة (ربما وصولاً إلى 22 جنيهاً للدولار مع نهاية العام). تخفيض قيمة الجنيه يهدف لتخفيض كلفة الاقتراض التي تقوم بها الحكومة المصرية من الداخل عبر إصدار سندات قصيرة الأمد بفوائد سنوية تبلغ 15% وذلك بسبب تعذر الاقتراض من الخارج، وتزايد وتيرة سحب النقد الأجنبي من داخل مصر ونقله للخارج بعدما بدأت الدول الغربية زيادة معدلات الفائدة. ما يتم الترويج له حالياً هو قرب حصول صفقات سياسية كبرى (غير واضحة الملامح) تسمح بحصول مصر على عشرات مليارات الدولارات (التي ستكون بالكاد كافية لتسديد الالتزامات القصيرة الأمد).
زيارة الرئيس المصري أخيراً لقطر سبقتها تسريبات غامضة المصدر عن صفقة سترعاها قطر للمصالحة بين السيسي والإخوان مقابل دفع قطر مساعدات أو منح بقيمة 60 مليار دولار لمصر. حصلت الزيارة ولم يرافقها أي تطور من هذا النوع ومن المفارقات اللطيفة أن أمير قطر صرح بالتزامن مع الزيارة أن بلاده لا تمتلك أساساً أي علاقة بالإخوان. من روج - ربما عن حسن نية - تلك التسريبات حول تلك الصفقة لم يجرب التفكير بما إذا كانت قطر هذه الأيام تمتلك أساساً 60 مليار دولار فائضة يمكن ضخها - كاستثمار أو منح أو ودائع - في الاقتصاد المصري، أو ما إذا كان الإخوان المسلمون - بسعر الجملة أو المفرق - يساوون 1% من هذا المبلغ أساساً. وعلى الجانب الآخر، أي الدول التي تعتبر الإخوان مصدر خطر، لم يعد هناك من يعتقد أنهم مصدر خطر يستوجب دفع مليارات الدولارات لمحاربتهم أو لمنع مصالحة بينهم وبين أحد الأنظمة السياسية في المنطقة.
وبعيداً عن التفاصيل الدقيقة، لا يخفى أن أغلب الدول القادرة مالياً في المنطقة، تحديداً في الخليج العربي، قد غيرت في السنوات الأخيرة من مقاربتها لاستخدام قدراتها المالية. انتهى زمن المنح المليارية غير المشروطة، وانتهى زمن المال السياسي، وزمن الدفع بدون مقابل. الآن كل شيء بمقابل، على الأقل اقتصادي، وهذا ما يظهر حالياً في حركة الخصخصة المتسارعة في مصر وبيع أسهم في شركات مصرية رابحة لشركات خليجية.
من الصحيح أن المثالين اللبناني والمصري هما ما ركزت عليه في بداية المنشور، إلا أن ما يحصل في المنطقة لا يقتصر عليهما. يصادف اليوم مرور ستة أشهر بالضبط على زيارة الرئيس السوري للإمارات، في 18 مارس، تلك الزيارة سبقها وأعقبها الكثير من التوقعات حول الانعكاسات الإيجابية المتوقعة على الاقتصاد السوري. ما حصل حتى الآن محدود للغاية. كان هناك تحسن وهمي مؤقت لسعر الليرة السورية أمام الدولار من 4000 إلى حوالي 3750 ليرة والآن عاد إلى 4500. سيسارع "البعض" للقول إن فترة ستة أشهر لا تكفي للقياس. إلا أنها في الحقيقة أكثر من كافية لظهور مؤشرات. أحيل المشككين هنا إلى ما نشرته صحيفة "Financial Times" البريطانية الأسبوع الماضي عن أن المصرف المركزي التركي (وحده) قد حصل بشكل غامض على تدفقات مالية بقيمة 24.4 مليار دولار خلال الأشهر السبعة الأولى من هذا العام (أي فترة التقارب التركي-الخليجي)، بما ساهم بتعويض العجز المالي للمصرف في توقيت حساس للغاية، مع بقاء أقل من عام على الانتخابات العامة في تركيا.
لهذا فإن فترة ستة أشهر أكثر من كافية لاستشراف المستقبل. لهذا فمن المتوقع أن يستمر سعر الليرة السورية بالانخفاض مع تدهور باقي المؤشرات الاقتصادية. والسبب الرئيس لهذا التدهور في سورية مشترك مع لبنان ومصر وهو استمرار الرهان على إدامة عمر اقتصاد فاسد عبر المنح المليارية من الخارج. هذه المنح لن تأتي، ولن يكون هناك تمويل غير مشروط لإعادة الإعمار وللمشاريع الإنشائية الهائلة كما يمني البعض نفسه، في مصر أو لبنان أو غيرهما. الحل الوحيد والبديهي هو بناء الاقتصاد المنتج وإنهاء ظاهرة اقتصاد الاستيراد الاحتكاري. ولكن توقع حصول هذا على المدى المنظور، كتوقع شروق الشمس من الغرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق