هذه رواية مر على تأليفها اليوم 35 سنة، وكلما تقادمت كلما زادت أهميتها، وذلك لأن بهاء طاهر حين كتبها في عام 1990 كان يمسك بأركان الذاكرة قبل أن تهرب منها تلك الأحداث والمشاهد التي تعرف عليها وهو بعد في سنوات الصبا والشباب خلال الفترة من 1950 وحتى 1967 وما بعدها.
سنكتشف هنا مرة أخرى، أن كل القصص والحكايات التي تجمع ثلاثية الإقطاع والملكية والثورة ...تكسب دوما اهتمام القارئ.
لكننا هنا لا نتحدث عن الفترات الانتقالية الحرجة والتحولات من الإقطاع والباشوية إلى الجمهورية في مدينة حضرية مثل قاهرة نجيب محفوظ، بل في قرية في الصعيد، على البر الشرقي للنيل غير بعيد عن الأقصر.
من البداية ينبهنا المؤلف بأن هذه الأحداث خيالية، ومع ذلك يسوق القصة بصوت الراوي، الصبي الصغير الذي يحدثنا عن كل شيء في قريته، ويخبرنا عن الأبطال والشخوص في الرواية بكل هدوء وبساطة وعمق، ما يجعلنا نظن أن المؤلف يكتب شطرا من السيرة الذاتية لنفسه وقريته.
ووفقا لمدرسة نجيب محفوظ، حيث الحارة هي العالم كله، والحي الصغير هو الكون بأسره، نتعرف في قرية صغيرة ملامسة للبر الشرقي للنيل على عوالم كبرى، تجمع الفلاحين المعدمين، وإرث الإقطاع، وقصة حب ملحمية تتحول إلى مأساة دموية على طريقة الأساطير اليونانية.
والحقيقة أن التيمة الأساسية التي تقوم عليها رواية "خالتي صفية والدير" عرفتها مصر القديمة ونجد لها شذرات من الأدب المصري القديم قبل آلاف السنين، عن تلك المرأة التي لقيت رفضا من رجل تمنت الزواج به فانقلبت عليه وحولت الحب الكبير إلى قتل كبير ودم كبير، وأوقعت بين الأخ وأخيه كي تثأر لكرامتها حين رفضها رجل أحبته بجنون بينما تركها ليفوز بها رجل آخر لا يداني في الصفات والأحلام ما تتمنى المرأة العاشقة.
لكن "صفية" التي يناديها الراوي الصغير باسم "خالتي صفية" هي الضلع الأول فقط في القصة. فهناك حربي، البطل الشريف الشهم الذي تتحول حياته إلى عذاب وظلم وقتل دون أن يفكر في الانتقام.
أما الدير الذي جاء في الرواية، والذي يشكل مسرحا للأحداث واللجوء والأمان من الغدر والقتل والمطاردة، فهو ليس الدير الذي نعرفه اليوم في عام 2024 محاطا بأسلاك شائكة وحرس أمن وأسلحة ومعزول عن الناس ولا يمكنك دخوله إلا بتصريح.
الدير الذي تضمه الرواية يعود عمره إلى أربعينيات القرن العشرين، قبل انتشار الطائفية واختراع الإرهاب.
كان الدير جزء من المكون العمراني للقرية، وجانبا من نفحات البركة فيها، ولا يختلف عن مكانة المسجد في التوقير والتعايش والاندماج.
وإذا كان المسجد يتوسط القرية لأن الناس يدخلونه خمس مرات في اليوم، فإن الدير كان يقع بعيدا على أطراف الصحراء لأن الرهبان يحبون العزلة وسكن القلايات.
علاقات المودة بين الفلاحين ورهبان الدير قبل 100 سنة كانت تشكل جزء من الوجدان المصري. ولعل هذا أحد أسباب ما ذكرته في السطور الأولى من أن هذه الرواية كلما تقادمت كلما زادت أهميتها.
واحد من فصول الرواية يحمل مسمى "المطاريد" وهو فصيل خارج على القانون انقرض – أو يكاد - من البر الشرقي للنيل.
تنتمي مشاهد المطاريد وقطاع الطرق إلى نظام أشقى الفلاح المصري، نظام فوضوي موروث منذ العهدين المملوكي والعثماني.
بالكاد يعرفنا المؤلف على امرأة غجرية في أحداث الرواية، والغجر فصيل آخر انقرض – أو يكاد – من النسيج السكاني للبلاد المصرية.
العربان أيضا لهم دور في الرواية بطريقة أقرب للجغرافيا التاريخية، وسيكون من الصعب أن نبحث عن مشاهد معاصرة لهم في عالم اليوم بعد كل ما مر به البدو من توطين وترويض عبر حكومات متتالية، فتركوا الصحراء وهجر العربان السلب والنهب والإغارة واستقروا أو عرفوا الزواج والاستقرار والمهن المستأنسة.
لكن بهاء طاهر هنا لا يجعلك تأخذ موقفا عدائيا أو استعلائيا من أي من هذه العناصر الدخيلة على القرية، فلا أنت تستطيع كراهية المطاريد ولا العربان لأن ادوارهم في الرواية تحمل مزيجا ما بين الخير والشر، الواجب والإنساني من ناحية والعدواني الشيطاني من ناحية أخرى.
في هذه الرواية التي لا تزيد عن 100 صفحة يجد المهتمون بالتغير البيئي والسكاني في البر الشرقي للنيل جانبا من "صورة الأرض" قبل قرن من الزمن. صورة فوتوغرافية أجمل بكثير مما حاول المسلسل التلفزيوني أن يترجمه من الكلمة المحلقة في الخيال إلى الصورة المتواضعة مهما اجتهد الممثلون فيها.
الصفحات الأخيرة من الرواية هي غيوم وغموض لكل الأبطال، لا سيما مع نقطة التحول التي وقعت بإغارة الطيران الإسرائيلي على "المطار السري" بجوار القرية، فتكت طائرات العدو ذات النجمة الزرقاء الأشبه بخناجر مدببة بطائرتنا في مرابضها، وكسرت كرامة أبناء القرية، لدرجة أن المطاريد عرضوا على الحكومة ان تترك لهم فرصة محاربة اليهود في سيناء ليمسحوا عار الهزيمة عن البلد.
ما بعد نكسة 1967 تنتكس نهايات الأبطال ويبدأ جيل جديد في شق طريقه نحو المستقبل.
صيغت الرواية بأبسط ما يكون من تقنيات السرد، بساطة حد الامتناع عن التقليد وحد الامتاع والمؤانسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق