كتب توم فريدمان في عام 2003: "لو تعلمت شيئًا واحدًا خلال كتابة موضوعات الشؤون الدولية، فهو أن القوة الأقل تقديراً في العلاقات الدولية هي قوة الإهانة". في مقالته المعنونة "عامل الإهانة"، استشهد فريدمان بخطاب رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، مهاتير محمد، والذي قال رداً على حرب العراق: "إن رد فعلنا الوحيد هو أن نصبح أكثر غضباً. فالبشر الغاضبون لا يستطيعون التفكير بوضوح".
إسرائيل، إيران وحزب الله، وجدوا أنفسهم الآن في حرب إهانة، التي يمكن أن تجعلهم "لا يفكرون كما هو مطلوب". المخابرات مهما كانت ممتازة، يمكنها العثور على غرفة وسيارة المرشح للتصفية، والحصول على معلومات دقيقة في الوقت الحقيقي عن حركته، وأن تجند عملاء لتنفيذ الاغتيال أو إطلاق صاروخ دقيق يصل إلى غرفة النوم. ولكن حتى الآن المخابرات لم تنجح، الإسرائيلية والأمريكية، في تحديد كيف ومتى سترد إيران وحزب الله على عمليات الاغتيال التي "أعادت لإسرائيل كرامتها".
علاوة على ذلك، إذا كان من المتوقع أن تضيف عمليات الاغتيال قيمة مضافة على شكل الردع، فإن مجرد الخشية من الرد يدل على أن الردع لم يتحقق، ربما العكس. لا يمكن الفصل بين اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، في إيران، وبين رزمة التهديدات الإستراتيجية المرتبطة به، التي تجعل إسرائيل تقوم بقضم الأظافر بانتظار قرار طهران.
في السابق كان هناك عدة فرص لاغتيال هنية. حسب تقرير نشر في صحيفة "التلغراف" البريطانية اغتيال هنية تم التخطيط له في شهر مايو أثناء مشاركته في جنازة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي قتل في حادثة المروحية. ولكن بسبب الخوف من المس بعدد كبير من المدنيين تم إلغاء العملية.
إذا كان هذا التقرير صحيح وإذا كانت توجد نية لتنفيذ عملية الاغتيال في احتفال وطني، جنازة الرئيس، فإن عملية الاغتيال الناجحة، رغم أن إسرائيل لم تتحمل المسؤولية عنها، تشير الى أن النية لم تكن فقط إزاحة "عدو قاتل" من العالم، بل ربما أيضا وقبل أي شيء آخر تحصيل دين كرامة آخر من إيران مقابل الإهانة الكبيرة التي تعرضت لها إسرائيل في هجوم الصواريخ والمسيرات في أبريل، حتى لو كانت أضراره الفعلية ضئيلة.
مقابل "معادلة الرد"، التي تطورت بين إسرائيل وحزب الله، التي ما زالت تملي حدود الرد للمواجهة العنيفة وعمقها وحجمها، فان "معادلة الإهانة" لا يمكن توقعها. لأنه كما قال رئيس الحكومة في ماليزيا بأن "الأشخاص الغاضبين لا يفكرون كما هو مطلوب". كل محاولة لتحديد بشكل منطقي المعايير التي في إطارها يجري الحوار العسكري المتوقع بين ايران وإسرائيل فانه يصعب جدا تحديد حجم تأثير وقوة "عنصر الإهانة"، ليس فقط المتعلق بإيران، بل أيضا الذي سيملي رد إسرائيل المتوقع على هجوم إيران.
إن اغتيال اسماعيل هنية عمل على تحريك عدة انفجارات تلقائية، التي يبدو أنه لم يعد بالإمكان السيطرة عليها ومراقبتها. للوهلة الأولى هي لم تعد متعلقة بالاتفاق مع يحيى السنوار حول إطلاق سراح المخطوفين، الذي يبدو أنه لم يعد موجود إذا حكمنا على الأمور حسب الاقتباسات التي نشرت في "كان 11" و"أخبار 12" من اللقاء بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورؤساء جهاز الأمن والاستخبارات. غزة والمخطوفين فيها أصبحوا قضية ثانوية، إذا لم تكن هامشية، وضرر عرضي للحرب "الكبرى" التي بدأت في الوصول الى نقطة الغليان.
مهم فقط معرفة إذا كان رؤساء جهاز الأمن، الذين طلبوا من نتنياهو القول بشكل صريح إذا كان ما يزال معني بصفقة التبادل، قد عبروا من قبل عن موقف حازم كهذا ضد عملية اغتيال هنية، الذي مع ذهابه ستتبخر أيضا احتمالية عقد الصفقة. أو أن الفرصة العملياتية والاستخبارية وضعت غشاء على عيونهم وليمت المخطوفون.
الرد البليغ لإيران على اغتيال هنية يشير إلى تغيير جوهري في خطة إيران الاستراتيجية التي تستند إلى تأسيس نفس "حلقة النار" التي يمكن أن تحميها من هجوم مباشر في الوقت الذي تشعل فيه البؤر الإقليمية والمحلية. صحيح أن إيران قد تجاوزت في أبريل"حلقة النار" عندما قامت بمهاجمة إسرائيل مباشرة ووضعت نفسها كهدف رئيسي، ولكن في حينه إيران اعتبرت الرد لمرة واحدة، رد لا يسعى إلى اشعال الحرب الشاملة. الافتراض الذي يوجه منظومات الدفاع والهجوم الإسرائيلية والأمريكية هو أنه أيضا في هذه المرة إيران ستهاجم، هي ووكلاءها، أهداف في اسرائيل. ولكن قوة التهديد اللفظية تفسر كاستعداد ايران لتوسيع دائرة القتال.
ولكن في الطريق إلى إطلاق الصواريخ والمسيرات على إسرائيل، ورغم قوة الإهانة، إلا أن ايران ملزمة بفحص بشكل عقلاني الثمن الذي يمكن لهجوم كهذا أن تدفعه. أي أنه كيف يجب عليها الرد بدون أن تنتحر، أو أن تفقد مواردها الاستراتيجية، وبدون المس بنجاعة وكلائها وقوة "حلقة النار"، التي ستستخدمها في المستقبل، لأنه قبل المهمة المخصصة لكل فرع في الرد على إسرائيل، فان له دور رئيسي في الدولة التي يعمل فيها.
مثلا، المليشيات الشيعية في العراق ليست فقط ذراع عسكري مسلح يستهدف الأهداف الأمريكية والإسرائيلية. والمليشيات غير المتماثلة تعمل في إطار وزارة الدفاع العراقية ويتم تمويلها من ميزانية الدفاع في الدولة. ولكونها قوة عسكرية موازية في الدولة فإنها تخدم زعماء سياسيين من الشيعة وتعطيهم القوة السياسية الزائدة ومن خلالهم تعطي القوة لطهران. الحاجة إلى الحفاظ على هذه المليشيات جعلت الزعيم الأعلى الإيراني علي خامنئي يرسل في فبراير قائد "قوة القدس" في حرس الثورة، إسماعيل قاءاني، إلى بغداد من أجل أن يأمر رؤساء المليشيات بالتوقف عن مهاجمة الأهداف الأمريكية بعد أن تسبب الهجوم على قاعدة أمريكية في الأردن بهجوم شديد على قواعدهم.
بشكل مشابه، فإن إيران قامت حتى الآن بتنسيق نشاطات حزب الله، الذي أهميته على اعتبار أنه المدافع عن مصالح إيران في لبنان وفي سوريا، تغلبت حتى الآن على أي اعتبار آخر.
ربما أن الحوثيين استثناء في هذا النسيج، لأنهم ليسوا تنظيم داخل دولة، بل هم الدولة نفسها، أو على الاقل الجزء من اليمن الذي احتلوه في 2014. في بداية طريقهم إيران لم تعتبرهم ذراع عملياتي لها، بل هي نصحتهم بعدم احتلال اليمن. التطورات في الميدان هي التي جعلت الحوثيين، غير المحسوبين على التيار "الأرثوذكسي"، فرع آخر مستوى امتثاله للتعليمات من إيران غير تلقائي.
إيران ملزمة بناء على ذلك بفحص جيدا التداعيات التي ستكون للهجوم على إسرائيل أيضا حسب رد إسرائيل وأمريكا المتوقع في كل دولة من هذه الدول، لا سيما في لبنان وفي العراق.
حتى قبل ضرورة الدفاع عن مكانة وكلائها ومنع وضع فيه يستدعي هجوم صارخ ضد إسرائيل رد يهز مكانتها ويضعف نفوذ ايران في هذه الدول، ايران تدرك بشكل جيد بنك الاهداف الحساس الموجود لديها. الحديث لا يدور فقط عن المنشآت النووية التي يمكن أن تكون اهداف، بل ايضا المس بأهداف سهلة مثل الموانيء وقواعد حرس الثورة التي تم زرعها على طول الخليج "الفارسي" وآبار النفط وحقوق الغاز ومنشآت إنتاجها والمصانع المدنية التي يسيطر على معظمها حرس الثورة، كل ذلك يمكن أن يجبي من ايران ثمن سياسي واقتصادي باهظ.
وما لا يقل عن ذلك اهمية هو التشويش الذي يمكن لمثل هذه الحرب أن تسببه لتوجه ايران الاستراتيجي والاقليمي، التي تطمح في السنوات الاخيرة الى تحسين علاقاتها مع الدول العربية في المنطقة.
عندما قامت ايران بالاعداد للرد على اغتيال محمد رضا زاهدي في أبريل فقد عملت على الإبلاغ مسبقا جميع الدول ذات العلاقة، من بينها جيرانها العرب والولايات المتحدة. بعد الهجوم أوضحت بأن هذا كان "رد محسوب"، أي أنه رد حسب رأيها يقتضي الرد من اسرائيل.
في هذه المرة التصريحات العلنية تتحدث عن رد أكثر شدة وعن "عقاب لن تنساه اسرائيل". ولكن مثل هذه الحرب، التي حذرت ايران منها خلال أشهر الحرب العشرة، يمكن أن تزيد الشعور بتهديد إيران لدول الخليج، بالذات بعد أن وضع الرئيس الايراني الجديد، مسعود بزشكيان، هدفا اساسيا له وهو ترسيخ العلاقات مع جيران ايران.
في العام 2013 أوجد خامنئي مفهوم "مرونة بطولية" عندما شرح لماذا يؤيد المفاوضات حول الاتفاق النووي. "أنا لست ضد الخطوات الدبلوماسية الصحيحة. أنا اؤمن بما سمي قبل سنوات "مرونة بطولية. في ظروف معينة هذا يعتبر أمر ايجابي وحيوي"، وفقا لامنئي.
وأضاف: "المصارع يظهر أحيانا المرونة لأسباب تقنية، لكن يجب عليه أن لا ينسى من هو خصمه وعدوه".
في 2023، في لقاء مع جهات رفيعة في وزارة الخارجية في إيران حلل خامنئي مفهوم المرونة الى عوامله عندما قال إن "المرونة تعني تصور الحفاظ على مصالح الدولة. ولكن هذا لا يعني نسيان المباديء، مثل الحفاظ على المصالح، والنفعية التي تعني بأنه يجب ايجاد طريقة للتغلب على العوائق الصعبة من اجل مواصلة المسار حتى تحقيق الهدف".
بمفاهيم السياسة الواقعية فان كل الاعتبارات التي يجب على ايران أخذها في الحسبان يمكن أن تملي "رد متناسب"، في نفس اطار "المرونة البطولية". ولكن في داخلها يندمج ويختفي الآن نفس العامل المدمر الذي وصفه فريدمان بأنه "القوة الاقل تقديرا في العلاقات الدولية". عنصر الإهانة، الذي أمامه، كما تعرف اسرائيل جيدا، تتلاشى الاعتبارات العقلانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق