-1-
القضية هي : من قتل عثمان ؟
-2-
معاوية بن أبي سفيان هو مندوب خليفة المسلمين عثمان بن عفان في الولاية على الشام . في الواقع أن معاوية تولى هذا المنصب منذ سنوات طويلة بقرار من عمر بن الخطاب بحكم مكانته وكفاءته.
أما كفاءته ، فقد كان معاوية ذكيا إلى درجة الدهاء .. مناورا إلى درجة الخديعة .. ناعما إلى درجة الالتواء .. مطيعا إلى درجة الممالأة .. هادئا إلى درجة التربص .. مرنا إلى درجة التقلب .. طموحا إلى درجة الجشع .. لماحا إلى درجة اكتشاف مكان الضعف في نفوس البشر .. مصانعا إلى درجة المكيدة .. مجاريا لمن فوقه .. متسلطا على من تحته.
هذا إذن رجل سياسة !
-3-
طوال حكم عمر بن الخطاب كان الجهاد كله ضد العدو الخارجي . لهذا برز معاوية وأصبحت مزاياه مضافة إلى المسلمين . بينما عيوبه محسوبة ضد عدو المسلمين.
وشی آخر : كان عمر شديدا في الحق . قويا في الشخصية . محاسبا المرء وسيه عادلا مع رعيته. لهذا أبرز له معاوية مزاياه .. وأجل طموحه ..
ولكن عمر مات .. وجاء بعده عثمان بن عفان خليفة على المسلمين . إن عثمان مؤمن وصادق وطيب ودمث ومتسامح ولين ورقيق .. وفي السبعين من عمره.
وشيء آخر : إن الخليفة الجديد - عثمان - تربطه بمعاوية علاقة قرابة ومصاهرة .
من هنا نبدأ .
-4-
تولى عثمان منصب الخلافة بعد عمر بن الخطاب بالشورى تولاه في سنة ٢٣ هجرية .
وخلال سنوات قليلة نشأت قضايا جديدة. أصبحت تحتاج إلى أجوبة جديدة . أن الدولة الإسلامية التي كانت ناشئة تتجه إلى التوسع الآن أصبحت ثابتة تميل إلى الاستقرار .
والفتح الإسلامي الذي كان منطلقا بحكم العقيدة .. أصبحت الآن مخاطره أقل ومزاياه أكبر . إننا الآن أمام دولة قوية ، ممتدة ، غنية ، تحولت مشكلتها من الحصول على الثروة إلى كيف توزع الثروة .
عثمان بن عفان يوزع الثروة . لقد اجتهد فأصاب .. واجتهد فأخطأ.
أحد أخطائه أنه لم يضع ضابطا مقنعا متفقا عليه لتوزيع الثروة . مثلا .. مثلا .. منح من خزانة الدولة - بيت المال - ستمائة ألف درهم لأحد الصحابة ، ومائتي ألف لواحد آخر . وثلاثمائة ألف لواحد ثالث.
كان هذا إساءة للتصرف .. لولا أن الواحد الأخير هو عم الخليفة - عثمان بن عفان.
الآن أصبحت الإساءة تمس نزاهة الحكم .
وبدأ الناس يتهامسون ، ولكنهم اكتفوا بذلك ...
-5-
لم يكن عثمان بن عفان يعلم ، بعد . أن مؤرخا إسلاميا سوف يسجل له إنجازاته على النحو التالي : إن عثمان هو أول من أقطع القطائع ، وأول من حمى الحمى ، وأول من خفض صوته بالتكبير . وأول من أمر بالآذان يوم الجمعة . وأول من رزق المؤذنين . وأول من ارتج عليه في الخطبة ، وأول من قدم الخطبة في العيد على الصلاة . وأول من فوض إلى الناس إخراج زكاتهم. وأول من ولى الخلافة في حياة أمه . وأول من اتخذ صاحب شرطة . وأول من اتخذ المقصورة في المسجد خوفا من أن يصيبه ما أصاب عمر . وأول من وقع في عهده الاختلاف بين الأمة .. فخطأ بعضهم بعضا في زمانه في أشياء نقموها عليه ، وأول من هاجر إلى الله بأهله ، وأول من جمع الناس على حرف واحد في القراءة.
وأول منكر ظهر بالمدينة في عهده حين فاضت الدنيا ، وانتهى امن الناس.
- 6-
الناس في أي أمة .. يسمعون من الحاكم أشياء كثيرة ، من غير أن يتكلم . إن الحاكم يحتاج إلى معاونين . أنظر إلى المعاونين ، ترى الحاكم . وانظر إلى أساس اختيارهم تعرف أساس الحكم .
وقد نظر الناس يوما .. فوجدوا الولايات الأربع الكبرى في الدولة الإسلامية يتولاها أربعة من أقرباء عثمان.
إنها إذن مسألة ولاء .. قبل الكفاءة .
مرة أخرى : نزاهة الحكم .
حينما فسدت المعايير أمام الناس .. اختلت النزاهة . من الاختلال انقسم الرأى . من الانقسام اضطربت الرؤية. من الإضطراب اهتزت الدولة . من الاهتزاز ولد التمرد.
عثمان بن عفان يواجه التمرد . أحيانا بالتراجع ، فيعزل واليا له ثبتت عليه الخمر . وأحيانا بالنصيحة.
ولكن أهل النصيحة حوله هم أنفسهم محل الشكوى. إنهم محل ثقته هو . ولكنهم محل سخط الناس . لقد استغلوا فيه طيبته وشيخوخته .. فصوروا له الشكوى في كل مرة على غير ما هي عليه . لقد بدأوا يصنفون له المعارضين لقراراته في تصنيفات مقررة مقدما : هذا حاسد لك وهذا طامع فيك .. وهذا أقل منك .. وهذا متحامل عليك . وهذا متآمر ضدك.
في البداية .. لم يكن هناك تآمر .
كانت هناك شكوى . الشكوى اتجهت أولا ضد ولاة عثمان . بعدها اتجهت ضد بطانته . أخيرا اتجهت ضده.
-7-
الناس يسمعون من الحاكم أشياء كثيرة من قبل أن يتكلم.
-8-
عندما لم تذهب عاصمة الدولة إلى المتمردين في ديارهم تبحث شكواهم .. ذهب المتمردون إلى العاصمة ينقلون تمردهم . إنها سنة ٣٥ هجرية . إن «المدينة» .. وهي عاصمة الدولة الإسلامية .. أصبحت تحت الأحكام العرفية . أحكام فرضها المتمردون القادمون بأسلحتهم من مصر والعراق والكوفة .
عثمان بن عفان يطلب النجدة من ولاته .. الذين هم أيضا أقرباؤه . معاوية بن أبي سفيان والى الشام هو أقوى أقربائه.
لم يحضر أقرباؤه . تصرف سوف يسجله فيما بعد المؤرخ الأجنبي جيبون بقوله : «راح الخليفة الوقور الذي تخلى عنه أولئك الذين استغلوا بساطته ، ينتظر يائسا ... اقتراب موته».
-9-
التمرد يزداد قوة . الأحكام العرفية تشتد . الأقرباء يتخاذلون . والخليفة - الآن تحت الحصار - لا يجد لغة مشتركة بينه وبين الثائرين . إن الدين لا يردعهم ، لأنهم يتكلمون عن الدنيا . عثمان بن عفان نفسه كان مرحلة انتقالية في الدولة الإسلامية بين الدين والدنيا.
إنه الآن تحت الحصار - منذ ٢٢ يوما وهو محدد الإقامة . لا تفاهم . ولا نجدة . ولا معونة ، ولا ماء ... ولا منطق.
فعندما يضطرب الناس يختفى المنطق . الآن دارت عجلة الثورة المسلحة ضد الخليفة لأول مرة في الدولة الإسلامية . ولن يستطيع أحد إيقافها . إن الحصار على منزل الخليفة يشتد ويشتد ويشتد . ثم ....
-10-
صحا الناس فجأة على سؤال خطير :
من قتل عثمان ؟
-11-
وقضية أخرى عاجلة : من يحكم .. بعد عثمان ؟
عند هذا السؤال برزت إجابات جديدة . الإجابة الأولى هي : على بن أبي طالب . إنه ، بحكم فضله وعلمه وإيمانه ومكانته وقرابته من الرسول مرشح للخلافة.
في البداية رفض على .. فالذين يعرضون عليه الخلافة هم الذين يحكمون العاصمة بالقوة المسلحة . والذين يملكون البيعة هم كبار الصحابة وأهل الرأي . في النهاية وافق على بن أبي طالب .. وحصل على البيعة.
ولكن المشكلة لها إجابة أخرى : معاوية بن أبي سفيان.
من هذه الإجابة سوف تبدأ المشكلة . أكبر مشكلة واجهتها الدولة الإسلامية .. حتى الآن ..
-12-
كان التناقض بين الشخصين المتنازعين على الخلافة . هو تناقض لا مكان فيه للحلول الوسط . الصراع على السلطة لا مكان فيه للحلول الوسط .
كان على بن أبى طالب رجلا يعيش متأخرا عن عصره . إنه يمثل الدين والضمير والصدق والحق والمبدأ والشرعية . إن القضايا عنده أهم من الأشخاص ، والدين عنده فوق الدنيا ، والثواب عنده موجود في الآخرة .
وكان معاوية عكس هذا كله . رجل يمثل الدنيا والقوة والثروة والأمر الواقع . لقد مضت عليه سنوات طويلة في موقع حقيقى للسلطة .. هو الولاية على الشام . إن وراءه جيشا حقيقيا . وفي جيبه جوائز عاجلة . وفى يده أموال جاهزة تعطى لأنصاره الثواب في الدنيا ، وليس في الآخرة .
ولأن على بن أبي طالب أصدق دينا وأقدم جهادا وأطهر ضميرا وأعدل حكما وأقوى حجة .. فإن معاوية في البداية لم يطرح قضيته الحقيقية دفعة واحدة . إن قضيته هي طموحه . وطموحه هو أن يصبح هو نفسه الخليفة الجديد للمسلمين بعد عثمان.
ولكن معاوية رجل سياسة . لهذا اختار قضية أخرى يغلف بها قضيته الحقيقية . إنه قريب لعثمان بن عفان، وهو ساعده الأيمن في حياته . لماذا إذن لا يصبح متحدثا باسمه بعد موته ؟
وبدلا من أن يبايع معاوية الخليفة الجديد الشرعي - على بن أبي طالب - فإنه طرح قضية مضادة يعلم مقدما أنها القضية الوحيدة التي تعطيه الشعبية التي يفتقدها.
- 13-
القضية هي :
من قتل عثمان ؟
-14-
من هنا بدأت أول حرب أهلية في تاريخ الإسلام . إن الخليفة الجديد - عليا - يريد الاعتراف به أولا .. ويريد أن تصبح لديه قوة فعلية ثانيا ويريد أن يقضى على هذه الحرب الأهلية ثالثا .. ثم يريد أخيرا الحكم في قضية مقتل عثمان بناء على أدلة حقيقية . إن الجريمة هي القتل ، وهو حد من حدود الله . والجريمة هي قتل الخليفة ، وهو منصب تتركز فيه هيبة الدولة كلها.
ولكن على بن أبي طالب يخاطب في الناس دينهم وضميرهم .
أما معاوية فيخاطب فيهم دنياهم وجيوبهم .
الآن سوف يبدأ كل طرف منهما في تجميع أنصاره . والآن سوف تنشق الأمة كلها فيما بينهما . إن الفريق الأول يرفع قضية مشروعة هي شرعية الخلافة . والفريق الثاني يرفع أيضا قضية مشروعة هي التحقيق في مقتل عثمان بن عفان.
لم يكن هناك فاصل سوى السيف .. فبدأت الحرب.
-15-
موقعة الجمل
انتصر على بن أبي طالب ضد جزء من المنشقين عليه . ولكنه انتصار حزين . ففي هذه المعركة لم يكن المسلم يقاتل المسلم فقط .. ولكن الأخ يقاتل أخته ، والأب يقاتل ابنه والخاسر في النهاية هو طرف غير الطرف الأصلي الذي تدور الحرب تحت شعاره.
ففى ذلك اليوم لم يقتل المسلمون قتلة عثمان .. ولكنهم قتلوا فقط بعضهم البعض. وظلت القضية قائمة.
-16-
من قتل عثمان ؟
-17-
حتى الآن لم تحدث مواجهة مباشرة بين جيش على وجيش معاوية . الجيش الأول مركزه العراق .. والثاني سوريا ( يسمونها الشام ) . وللمرة الألف في التاريخ .. يصبح مفتاح الموقف موجودا في مصر .
لقد فكر معاوية في الاحتمال الخطر : إن والى مصر يمثل على بن أبي طالب .. واسمه قيس بن سعد . ان مصر توجد غربا ... والعراق شرقا . وسوريا في الوسط. إن عليا سوف يسير إلى الشام بجيشه من العراق .. ولو سار قيس هو الآخر بجيشه من مصر .. يقع معاوية بينهما في كماشة . إذن .. المفتاح الآن هو مصر .
في البداية حاول معاوية أن يكسب والى مصر إلى صفه . لقد كتب إليه يطلب رأيه في قضيتين محددتين بالذات . إنه يقول له أولا : "تب إلى الله يا قيس ......"
ويقول له ثانيا : "... فإذا استطعت يا قيس أن تكون ممن يطالبون بدم عثمان . فافعل ، وتابعنا على أمرنا .. ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت . ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لى سلطان ، وسلنى ما شئت فإني أعطيك ، واكتب لى برأيك".
ودهش قيس من الخطاب . إن معاوية يرشوه . والرشوة التي يعرضها هي حكم العراق مدى الحياة وحكم الحجاز لأقربائه .. مقابل .. مقابل ماذا ؟
مقابل التضامن مع معاوية في صراعه على السلطة . وقيس لا يقل عن معاوية ذكاء . وهو يعلم جيدا أن السلطة - وليست جريمة قتل عثمان بن عفان - هي طموحه الأكبر . ولكن .. إذا كان معاوية يستطيع أن يكون ملتويا مرة ... فإن قيسا يستطيع أن يكون ملتويا مرتين.
- 18-
في دمشق . قرأ معاوية خطاب قيس بن سعد من مصر فإذا به يقرأ : لا شيء . إن قيسا ليس ضده ولكنه أيضا . ليس معه . هذا هو كل شيء !
وأعاد معاوية الكتابة إلى قيس . مهددا ومتوعدا وطالبا موقفا محددا.
وأخيرا .. جاء الموقف المحدد : إن قيسا يرفض التنكر لشرعية على بن أبي طالب .
وعلى الفور تحرك معاوية في اتجاهين فأولا : أشاع في الناس أن قيسا قد انضم إليه، وقد وصل حالا خطاب منه بذلك .
وثانيا : طلب من تابعيه في العراق أن يشيعوا ذلك حتى يفقد الخليفة ثقته في واليه بمصر.
والنتيجة : قرر على بن أبي طالب عزل واليه بمصر !
وسوف تمر شهور طويلة ، قبل أن يكتشف على بن أبي طالب براءة قيس . لكن ساعتها يكون الوقت قد فات !
-19-
الحلفاء يتجمعون . الجيوش تتحرك - من سوريا غربا، ومن العراق شرقا - والقضية هي :
من قتل عثمان ؟
-20-
في الحياة العادية تستطيع أن تحكم على الإنسان ينوع أصدقائه.
وفي السياسة تستطيع أن نحكم على السياسي بنوع حلفائه ومعاونيه . ولأن على بن أبي طالب واضح.. فإنه يخاطب في الناس ضميرهم، ويحدثهم عن نصرة الدين ، ويعدهم بالثواب في الآخرة .
ومعاوية بن أبي سفيان هو الآخر واضح . إنه للمرة المائة يخاطب في الناس جيوبهم ، ويحثهم على نصرته هو شخصيا، وبعدهم بالثواب في هذه الدنيا .. الآن ... ونقدا. إنه ينمي في الناس أطماعهم، ويتحدث معهم بمنطق المصلحة المشتركة ، وبعدهم باقتسام الغنائم، ويضع تحت تصرفهم عينة من الرشوة.. وعربونا التحالف.
هذه بروفة مبكرة لماكيافيللى حيث الغاية تبرر الوسيلة. هذه أيضا بروفة مبكرة لنوع من الحكام السياسيين سوف يتكرر ظهوره كثيرا في التاريخ العربي. سياسيون يرفعون أقدس الشعارات ، بينما تحركهم أسوأ الدوافع - ويجمعون حولهم أسوأ بطانة .
إن معاوية هو إذن رجل لكل العصور . أو حاكم لكل العصور. إنه يمثل قوة العقل البشرى .. يمثل ما يمثل ضعف المشاعر الإنسانية، إن المشاعر الإنسانية والدوافع البشرية هي من النوع المعقد جدا ، بحيث لا يمكن تفسيرها أحيانا بالمنطق ، ولكن يمكن تفسيرها غالبا بالمصلحة . معاوية يؤمن بالمصلحة . إن الغاية عنده تبرر الوسيلة ، والولاء لشخصه أهم من الولاء لمبدأ . إنه سوف يجرب كل وسيلة في الحصول على هذا الولاء .. الإقناع والإرهاب والأطماع والرشوة والخديعة وكل شيء .. كل شيء.
نحن هنا أمام نموذج بشرى لرجل سياسة .. بعد أن كنا - أيام عمر بن الخطاب - أمام نموذج بشرى لرجل دولة . عمر كان يبنى المواطن أولا .. ولكن معاوية يبنى السلطة . وكان عمر يحاول أن يجعل الناس أفضل مما هم عليه . ولكن معاوية ليست لديه مثل هذه الرغبة . معاوية رجل عملي . لقد ورث عن أبيه قوته وقسوته وكيده ودهاءه ومرونته . وكسب من عصره إغراء الدنيا وطمع السلطة . وكسب من أحلامه هو شيئا أهم : عبادة السلطة .
لقد أصبحت السلطة بالنسبة له هي الهدف، والحصول عليها هو الغاية ، والاستمرار فيها هو الجائزة . إننا من الآن فصاعدا لن نرى حوله - داخل السلطة - سوى إناس من نفس عقليته وتفكيره . إنه أمام الناس يرفع الشعار الذى لا يستطيع أحد أن يعارضه . شعار : الانتقام من الذين قتلوا عثمان بن عفان . ولكنه أمام معاونيه يطرح المصلحة التي لا يستطيعون مقاومة إغرائها . إن الذين غشهم الشعار فيه بدأوا ينفضون .. والآن لن يبق سوى الذين تشدهم إليه المصلحة.
إن عمرو بن العاص ، مثلا ، الذى كان عثمان بن عفان قد عزله من ولاية مصر في حياته .. يطلب من ولديه - في حوار عائلي - أن يشيرا عليه .. لمن ينضم : لعلى بن أبي طالب .. أو لمعاوية بن أبي سفيان ؟
-21-
دمشق . معاوية يتفاوض مع عمرو بن العاص : ما هو ثمن انضمامك إلى ؟
عمرو يرد على معاوية في إيجاز وحسم : والله يا معاوية أنت لا تقاتل عليا ولا على يقاتلك تنافسا على دخول الجنة .. إنكما تتقاتلان على الدنيا .. فأطعمنا مما تأكل لكي نناضل عنك نضال من يريد الأكل !
هذه لغة يعرفها معاوية ، وصراحة يريدها . واختصار يحبه . إذن : فلتكن العودة إلى ولاية مصر هي نصيب عمرو بن العاص من الأكل!
-22-
ذي الحجة . موقعة صفين . سنة ٣٦ هجرية.
الجيشان يتقاتلان بغير نتيجة . أخيرا يهجم على .. ويتراجع معاوية . وعندما تشاور معاوية مع عمرو بن العاص نصحه بالاحتكام إلى المصحف.
رفعت المصاحف . تمت الهدنة . التحكيم بعد الهدنة . الفريق الأول اختار أبا موسى الأشعرى ، والفريق الثاني اختار عمرو بن العاص.
بعد ستة أشهر اجتمع الحكمان ليتفقا على حل ينقذ الأمة من الحرب الأهلية . أخيرا اتفقا : يتم الإعلان عن خلع الاثنين المختلفين - على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان - وتعود الشورى إلى الأمة لاختيار من تراه لتولى منصب الخليفة.
وخرج الاثنان على الناس يعلنان قرارهما . أما عمرو بن العاص فقد طلب من أبي موسى التحدث أولا.
وتكلم أبو موسى . ثم تكلم عمرو بن العاص ، فقال : أما صاحبكم فقد خلع صاحبه ... أما أنا فأخلع أيضا صاحبه ، وأثبت صاحبي !
وهاج فريق على بن أبي طالب . إن هذا غش .. واحتيال .. وخداع .
و ... سياسة !
- ٢٣ -
من قتل عثمان ؟
-24-
من عاصمته - دمشق - يعلم معاوية أن أتباع على في العراق منقسمون على أنفسهم ... منهم من خرج عليه .. ومنهم من انشق ضده.
هنا يقرر معاوية شن حرب عصابات ضد أطراف المناطق الموالية لعلى في العراق . ومن الآن فصاعدا سوف يضطر على إلى خوض معارك دفاعية ليس فيها انتصار واحد . ولكن فيها هزائم متتابعة.
شيء آخر يعلمه معاوية : إن عليا قد عين مندوبا جديدا اسمه الأشتر. ليصبح واليا له على مصر . إن معاوية يعرف الأشتر - جيدا . يعرف أن كفاءته . زائد موارد مصر . سوف تكونان عونا ضخما لعلى . ويعرف أن في الطريق إلى مصر واحة محددة يجب أن يبيت فيها الأشتر ليلة واحدة أو ليلتين.
وعلى الفور اتخذ معاوية قرارين : أولا - رسالة سرية منه إلى زعيم القبيلة المقيمة في الواحة ، يطلب منه معاوية فيها مهمة محددة ، ويعفيه في مقابلها من دفع الضرائب مدى الحياة .
ثانيا - خرج معاوية إلى الناس يخبرهم بتوجه «الأشتر» إلى مصر .. ويطلب منهم مشاركته في الدعاء عليه في صلاتهم كل يوم .
بعد أيام قليلة جاء الخبر : مات "الأشتر".
إن الناس وقتها لم تعرف أنه مات مسموما . لقد عرفوا فقط أن معاوية مستجاب الدعاء عند الله .. وصاحب كرامات .. وربما من أولياء الله الصالحين .
-25-
قتل على بن أبي طالب .
-26-
فجأة تغير كل شيء : فالذين خذلوا عليا في حياته ورفضوا الخروج إليه في حرب أخيرة ، أصبحوا الآن يبايعون ابنه الحسن ، ويطلبون منه الخروج إلى الحرب ضد معاوية .
أخيرا ، تمت المفاوضات . في هذه المرة أعطى معاوية للحسن كل ما يريد.
-27-
معاوية بن أبي سفيان يحمل لقب الخلافة رسميا لأول مرة ، ويقف في الكوفة . والحسن يخطب بجانبه : أيها الناس .. إن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور .
إن هذا الأمر الذي سلمته لمعاوية .. إما أن يكون حق رجل كان أحق به منى فأخذ حقه وإما أن يكون حقى فتركته لصلاح أمة محمد وحقن دمائها . فالحمد لله الذي أكرم بنا أولكم ، وحقن دماء آخركم .
كلمات قالها الحسن ، ثم انصرف إلى الحجاز . مقيما في المدينة.
-28-
لم تحقن الدماء . فمعاوية يعلن للناس في الكوفة : انتهى وقت الوعود .. وجاء وقت الشدة .
- 29-
سنة ٥٠ هـ . الحسن يموت مسموما .
البعض يقول إنها ليست قضية سياسية . الأغلبية تؤكد أن معاوية هو الذي دبر تسميمه.
-30-
دمشق . إنها سنة ٥٦ هـ . ومعاوية يقيم حفلا لمبايعة ابنه يزيد للخلافة من بعده .
وخلاصة الحفل يبلورها أحد المبايعين بنهوضه رافعا سيفه معلنا على الجميع : أمير المؤمنين هو هذا ( وأشار إلى معاوية ) .. فإن هلك فهذا ( وأشار إلى يزيد ) .. فمن أبي فهذا وأشار إلى سيفه) .
-31-
نحن الآن أمام كل الملامح السياسية لحكم معاوية . إن الخلافة الآن في يده . وهي وراثية في أسرته من بعده . إنها خلافة نشأت ، وتستمر ، بحق القوة المسلحة . من قبل هذا فأهلا به وهو آمن على نفسه وماله وعياله . من اختلف ، فلرقبته السيف.
هذه إذن بذرة الاستبداد السياسي الذي سيشل عقول المسلمين لألف سنة بعدها . فتحت شعار "وحدة الكلمة" سوف يصادر السلطان كل كلمة . وتحت شعار "حماية الإسلام" سوف يحمى السلطان نفسه ، ويصادر عقول المسلمين ، ويقطع ألسنتهم . في الواقع أن معاوية نفسه قد لخص سياسته كلها بقوله : "إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم .. مالم يحولوا بيننا وبين سلطاننا".
إنها إذن مسألة سلطة ، وعبادة سلطة . يستطيع الناس أن يتكلموا ويناقشوا ويختلفوا ويجتهدوا ويعترضوا .. إلا في السياسة . من أجل هذا سوف ينهض العرب في كل العلوم . وسوف ينطلق تفكيرهم في كل مجال . إلا في البحوث السياسية.
من أجل هذا سوف يسقط طاغية ، ليرتفع طاغية . لا أحد يعرف لماذا اختفى من سقط .. ولا لماذا استمر من ارتفع . إن الكارثة هي نفسها في كل مرة ، ومع ذلك فالسبب واحد في كل مرة . السبب هو أن المسلمين أصبحوا - من الناحية السياسية - قوما فاقدى الذاكرة !
إنهم يكتبون تاريخهم السياسي على استحياء شديد . ويدورون حول كل مفاسد السلطة في تردد كامل . فلأن كل سلطان يحصل في عصره على منتهى التصفيق .. يصبح من الحرج الشديد بعد ذهابه أن يلاقى أى قدر من الحساب . وحتى حينما يحدث حساب فإنه يحدث بعد أن يمضى الشهود الحقيقيون ، وبروح من التردد والحياء ، وبهدف استغفار الله له ولقومه من بعده . إن الحاكم لم يكن ظالما لأنه أراد الظلم ، ولكن لأن الظروف دفعته إلى ذلك دفعا . أو - إذا لم تكن حجة الظروف مقنعة - فليكن أعوانه هم الذين ظلموا الناس بغير علمه . أو .. أو .. أو ..
المهم .. إن كل حاكم جديد يبدأ سلطته وهو لا يعرف على وجه الدقة أساس سلطته ولا قواعد مراجعته . إن الأمة لم تحدد له بوضوح : ما الذي ستتسامح فيه ، وما الذي لن تغفره له.
الأمة لم تفعل ذلك لأنها هي نفسها لا تعرف . وهي لا تعرف لأنها لا تدرس . وهي لا تدرس لأنها لا تناقش تاريخها على أساس من العقل. إن المؤرخين الإسلاميين غالبا لم يتركوا لنا تاريخا .. ولكنهم كتبوا لنا تقاريرا عاطفية . تقارير أساسها الحب والكراهية . في الكراهية نحن نلعن بلا حيثيات . وفى الحب نحن نقدم للحكام شهادات بحسن السير والسلوك .. وبغير أدلة.
من وقت معاوية بدأت الأدلة.
فنتيجة لاختلاط الدين بالسياسة ، لم يعرف المسلمون على وجه الدقة : أين تنتهى مهمة الخليفة دينيا فيحاسبه الله .. وأين تبدأ وظيفته سياسيا فيحاسبه الناس.
معاوية رفض أن يحاسبه الناس . إنه وصل إلى الحكم بمذبحة . واستمر فيه عشرين سنة بمذبحة . وسوف يضيع الحكم من أسرته بمذبحة . وفيما بين المذبحة . والمذبحة المضادة فيما بين الأمويين والعباسيين .. سوف يضيع من المسلمين نصف تاريخهم السياسي.
-32-
معاوية رجل سياسي .
لقد انتهى من الحصول على البيعة لابنه في دمشق .. ورتب بالسيف إزالة متاعبه في مكة والمدينة .. وعاد إلى دمشق.
في دمشق دخل إليه سعد بن أبي وقاص - الصحابي الجليل - محييا.
قال سعد : السلام عليك أيها الملك.
ضحك معاوية وقال : ما كان عليك يا أبا اسحاق رحمك الله لو قلت لي .. يا أمير المؤمنين ؟
رد سعد في مرارة : هل أنت تقولها ضاحكا ؟ والله ما أحب لنفسي أن أتولاها ، بالطريقة التي توليتها أنت .
-33-
سنة ٦٠ هـ .
مات معاوية . عند موته كان قد نسي أشياء كثيرة . نسى مثلا أنه .. أنه .. أنه ...
-34-
من .. قتل عثمان ؟
-------------------
محمود عوض - جريدة أخبار اليوم: 20 سبتمبر 1975
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق