* عبدالرحمن كمال
مع اشتعال الأوضاع في فلسطين، عقب دخول فصائل المقاومة على خط معارك العدو الصهيوني مع المرابطين في الأقصى، خرج علينا بعض المنظرين العرب والمصريين، بجملة أحسب إنها حكرا على نخبنا العربية التي تعاني مما أسماه المفكر الكبير، المهدي المنجرة: "المهانة في زمن الميغاإمبريالية"، فقد غدت المهانة شكلا للحكم ونمطا لتدبير المجتمعات وطنيا وعالميا.
ملخص هذه الجملة، على اختلاف الألفاظ المستخدمة للتعبير عنها هو: "المقاومة، أو الانتفاضة السلمية، هي الحل الوحيد لمواجهة احتلال العدو الصهيوني" وبالطبع يصاحب هذه الجملة جملا من تحميل حركات المقاومة (وبخاصة حماس) مسئولية "قتل" آلاف الأطفال والمواطنين في غزة بل وفي كل فلسطين!! حماس هي السبب.. لا المحتل!
بعض هؤلاء "النجباء" ضرب لنا مثلا ونسي أصله وظروفه، فمنهم من طالب الفلسطينيين بالاقتداء بما فعله الهنود في مواجهة الاحتلال الانجليزي، وبعضهم الآخر ضرب مثلا برحيل الرئيس المخلوع مبارك على إثر 18 يوما من التظاهر السلمي! (لا يزال هؤلاء في ضلالهم الذي يصور لهم أن الثوار والـ 18 يوم تظاهر، هو من أزاح مبارك) وبعضهم تحدث عن طريقة إخراج الانجليز من مصر بسبب العمل السلمي!
سنحاول في هذ السطور الرد على هذه الأراجيف والتحريفات والتخريفات، التي لا تختلف كثيرا في جوهرها عن الجوهر والغرض من خطاب وسياسة التطبيع، التي تنتهجها أنظمة الحكم العربية الخائنة كالإمارات والأردن ومصر والمغرب، فغرض كل هؤلاء الخونة هو نزع سلاح المقاومة وصواريخها، والاكتفاء بالولولة والنحيب السلمي.
هل تنجح المقاومة السلمية؟ مسيرات العودة تجيب
كان من بين الذين طالبوا الفلسطييين بضرورة العودة إلى العمل السلمي والانتفاضة والمقاومة السلمية ضد المحتل (سلمية ومحتل.. الاتنين مع بعض!!) الدكتور محمد البرادعي، والدكتور عمرو حمزاوي، وعدد من شباب مصر المحسوبين على معسكر 25 يناير لا معسكر الثورة المضادة.. فهم إذن من النخب والمفكرين والثوريين، ومع ذلك رددوا على مسامعنا نفس الكلام الذي يتفوه به مدلس متصهين مثل وسيم يوسف الإماراتي!!
لكن أبسط مثال على كذب وسذاجة هذا الطرح، هو أنه سبق تنفيذه بالفعل في فلسطين، وكانت النتيجة كارثية.
هل تذكرون مسيرات العودة التي اندلعت في عامي 2018 و2019؟! ألم تكن هذه المسيرات سليمة بحتة (كان أقسى وأقصى ما فيها استخدام الحجارة وحرق إطارات السيارات)؟ إذا كنتم نسيتم فهذه تذكرة، وإن لم تنسوا فهلا أجبتهم كيف كانت المسيرات وإلى أين انتهت النتائج؟
لمزيد من التذكير، في الذكرى السنوية الثانية والأربعين ليوم الأرض الفلسطيني، الموافق 30 مارس 2018، التي شملت مسيرات في العديد من المناطق في فلسطين وأخرى مناصرة لها، قَتل جيش العدو الصهيوني 16 فلسطينيا (في يوم واحد فقط)، وذلك عندما فتحَ النار على مظاهرةٍ كانت تجري على حدود قطاع غزة، وشملت مظاهرات حرق لإطارات مطاطية ورشق الحجارة واستعمال الطائرات الورقية المشتعلة لحرق الحقول الزراعية في المستوطنات.
اقرأ أيضا: هآرتس: لم يعد لدى إسرائيل ما تكسبه من الحرب.. توقفوا عن إرسال أطفالنا للموت في غزة
لم يتدخل المجتمع الدولي لمنع جرائم العدو الصهيوني كالعادة، رغم أن العدو الصهيوني استهدف عمدا أطقم طبية ومتظاهرين سلميين (أقصى ما في أيديهم الحجارة) منهم مقعدين على كراسي متحركة (مثل الشهيد القعيد صابر الأشقر).. إن المجتمع الدولي هو في الحقيقة "مطبخ اللصوص".. كما أطلق لينين على "عصبة الأمم" النسخة الأولى من الأمم المتحدة.
السؤال هنا لأمثال البرادعي وعمرو حمزاوي: هل كان هناك أي نتائج حققتها المقاومة السلمية لأهل فلسطين وقتها؟ وإذا كانت، فما هي كي نبني عليها في إطار معركتنا المطولة لتحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر؟
إن الدعوات إلى مقاومة سلمية ضد الاحتلال (والتي، ياللعجب، تظهر فقط في كل مرة تزامنا مع صواريخ المقاومة) قد ثبت أنها بلا قيمة ولا جدوى منها، اللهم إلا تقديم الشهداء بثمن بخس، دون رد رادع، مع عدو أثبتت الأيام والتجارب أنه إذا قدمت له يدك متنازلا مسالما، فسيأكل كامل ذراعك وسرعان ما يلتهم جسدك كاملا.
كانت المقاومة السلمية "اللاعنيفة" الركيزة الأساسية للنضال الفلسطيني منذ احتلال فلسطين وإقامة دولة الاحتلال. أدى ذلك الى استعمار العدو الصهيوني للمزيد من الأراضي الفلسطينية وبشكل متزايد.
جدار الفصل العنصري.. مثال فاشل آخر
بطبيعة الحال لا أحد ضد أي شكل من أشكال المقاومة، سلمية وغير سلمية، بصرف النظر عن مساهمتها، صغيرة أو كبيرة، ما دامت تساهم في إنهاء الاحتلال وتحرير الأرض.
وكما ذكر الكاتب عوني صادق في مقال له، فإن الاقتصار على «المقاومة السلمية» وحدها لتحقيق الأهداف وحل القضية الوطنية للشعب الفلسطيني يثير الارتياب في نوايا الداعين خصوصاً عندما ينطلقون من تقرير أن المقاومة المسلحة «فشلت» لأنها لم تكن «خياراً صائباً» وكأن ربع قرن من «المقاومة السلمية» والمفاوضات لم تفشل! هنا تكون دعوة كهذه قد تحولت إلى «نهج مشبوه» يجب مقاومته دون تردد.
إن المقاومة الشعبية السلمية لا تصلُح لمقاومة الاحتلال مطلقاً، كما أن تبنّي هذا الشكل فقط من المقاومة يعترف ضمنياً بشرعنة الإحتلال وتشير فقط الى ثمة تجاوزات يمارسها تُحتّم عليه العدول عنها، وفي المحصلة ينجح الإحتلال في تنفيذ مخططاته وتُصفّي المقاومة السلمية ملهاةً للشعب المُلزَم بدفع فواتير مخرجاتها السلبية والكارثية.
إننا أمام عدو لا يعرف إلا لغة القوة والمقاومة المسلحة الخشنة، ولا يُذعن لأي مفاوضات أو حلول إلا تحت ضغط النار والبارود.. وبالإضافة إلى مثال مسيرات العودة، كدليل على فشل الرهان حول تبني المقاومة السلمية، فهناك مثال آخر.
إذن، هاتان تجربتان كبيرتان من المقاومة السلمية، كانت مخرجاتها كارثية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم نحصد منهما سوى الصور التذكارية والذكريات المؤلمة، وبالتالي فإن المقاومة السلمية لا تجدي نفعا مع عدو لا يعرف إلا لغة القوة كما ذكرنا، وهذا يتطلب إعادة النظر في مفهوم المقاومة الشعبيةالسلمية بعيداً عن التلميع والتسويق الأجوفين المبنيين على ردات الفعل وتكوينات إصطفافية لأغراض في نفس يعقوب.
وأستعين هنا بما كتبه المحلل الفلسطيني نضال أبو شمالة، بأنه مهما كانت الفاعلية والجهود المبذولة في المقاومة الشعبية لا يمكن قياس مدى فاعليتها الا بمخرجاتها فالقاعدة العملية تقول لا تُقاس الفاعلية الفصائلية و الشعبية الوطنية بمدى الجهود التي تبذلها وانما تقاس بما يترتب على تلك الجهود من نتائج ايجابية،مع الأخذ بعين الاعتبار عند بلورة الخطط أن المقاومة الشعبية تحتاج الى حاضنة شعبية فكيف تنجح أي خطوات للمقاومة الشعبية السلمية في ظل شعب مسلوب الإرادة وحرية التعبير مُقرصن الحقوق الوظيفية و يعاني من غياب الرعاية الرسمية و يفتقر لأدنى مقومات الصمود؟
التاريخ يقول: قاوم ثم قاوم ثم قاوم
من أبرز الأمثلة التي تُستخدم في إطار تمرير وشرعنة الاقتصار على المقاومة السلمية، تجربة المهاتما غاندي (الذي اتضح أنه كان عنصريا بل وتعاون مع حكومة الاستعمار البريطاني لتعزيز نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا) في مقاومة الاحتلال البريطاني بشكل سلمي!
إن التاريخ يؤكد أن الأوطان التي تُنتهك سيادتها وتستباح أراضيها من قبل قوات أجنبية، لا يمكن لها أن تتحرر وتستعيد سيادتها وكرامتها، إلا من خلال مقاومة جريئة وفعّالة، يمارسها الشعب على أرضه ضد عدو محتل أو مستعمر. وهناك الكثير من الأمثلة لعمليات المقاومة الشعبية في العالم، التي قاومت المحتلين، واستطاعت بتصميمها وشجاعتها أن تحرر أوطانها، وتحقق استقلالها وسيادتها.
اقرأ أيضا: سد النهضة.. البداية الفعلية لتفتيت مصر
• المقاومة الايرلندية ضد الاحتلال البريطاني، الذي هيمن على ايرلندا منذ عام 1919 واستمر حتى حققت البلاد استقلالها بفعل مقاومة الجيش الايرلندي عام 1949.
• المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، عندما اجتاحت القوات النازية فرنسا، وطلب الجنرال بيتان استسلام فرنسا للنازيين، إلاّ أن الجنرال ديغول رفض الاستسلام، وقاد المقاومة الفرنسية من قيادته بالمنفى في بريطانيا، إلى أن تم دحر قوات الاحتلال النازية، وتحقيق استقلال فرنسا في عام 1945.
• هيمنت القوات الفرنسية على فيتنام عام 1949 إلى أن تمكنت المقاومة الفيتنامية من تحريرها في عام 1954 بعد معركة ديان بيان فو بقيادة الجنرال جياب. ثم حررتها مرة أخرى من احتلال القوات الأمريكية التي هيمنت عليها من عام 1962 إلى عام 1973.
• استعمرت فرنسا الجزائر وهيمنت قواتها على البلاد عام 1830، وتم تحريرها من قبل المقاومة الجزائرية عام 1962، بعد أن قدمت مليون شهيد.. وإذا كان البعض يحمل صواريخ المقاومة المسئولية عن قتل آلاف الأطفال والنساء والرجل والشيوخ (لا العدو الصهيوني) فه يحمل هؤلاء أيضا قادة الثورة الجزائرية المسئولية عن ارتقاء مليون شهيد!
• وهناك أيضا المقاومة الصينية ضد القوات اليابانية المحتلة، من عام 1937 وحتى عام 1945 حققت بعدها الصين استقلالها.
• بعد 18 عاما على احتلاله جنوب لبنان في 1978، انسحب العدو الصهيوني من الأراضي التي احتلّها دون أيّ شرط أو قيد، انسحب تحت ضربات المقاومة، ولولا المقاومة (وحزب الله بالطبع) وحدها لما خرج العدو، لتصبح هذه المرة الأولى التي يخسر فيها العدو الصهيوني أرضا احتلها في قتال عسكري لا عبر مفاوضات.
صواريخ المقاومة.. حتى لا نكرر مأساة الهنود الحمر
أخيرا، إن أهم ما يغفله أصحاب طرح الاكتفاء بالمقاومة السلمية فقط، هو أننا أمام شكل مختلف من تجارب الاحتلال التي تحدثوا عنها، بل ومختلفة تماما عن تلك التي سردناها آنفا.
ففي الاحتلال البريطاني للهند ومصر وايرلندا، كنا أمام الشكل التقليدي للاحتلال، دولة تحتل دولة، بغرض نهب ثرواتها ومقدراتها وفي إطار مشروع توسعي امبراطوري ضمن معارك تاريخية من أجل قيادة العالم أو الفوز بدور مؤثر في خريطته.
بينما الشكل الوحيد المتماثل تماما مع ما يحدث في فلسطين المحتلة، هو ما حصل قبل أكثر من 5 قرون، عندما أباد المستعمر الأبيض 112 مليون شخصا مثلوا 400 أمة من السكان الأصليين في قارة أمريكا الشمالية (لم يبق منهم في إحصاء أول القرن العشرين إلا ربع مليون شخص فقط!).
كانت فكرة أمريكا وقتها هي نفسها فكرة "إسرائيل" الحالية، فكرة استبدال شعب وأمة بأمة وثقافة بثقافة، وليس فقط مجرد احتلال لنهب ثروات أو حتى التوسع ضمن مشروع امبراطوري.
بل إن المفارقة أيضا، أن المستعمرين الانجليز "الزنابير WASP" الذين احتلوا أمريكا الشمالية وقتها، وقتلوا 112 مليون من سكانها الأصليين، أو كما يُطلق عليهم "الهنود الحمر"، كانوا يسمون أنفسهم يهودا وعبرانيين، ويطلقون على العالم الجديد اسم "إسرائيل" وأرض كنعان! وكانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون أعطاهم الله تفويضا بقتل الكنعانيين.. فالتاريخ إذن يعيد نفسه.. نفس أساليب الاحتلال وطرق القتل وادعاءات الحق، وأخشى أن يكون مصير الضحايا واحد.
من أجل هذا، فإن أي حديث عن مقاومة سلمية في مواجهة مثل هذه العقلية، لا يعني إلا أمرا واحدا: تكرار مأساة اختفاء 400 أمة وشعب من السكان الأصليين لقارة أمريكا الشمالية.. تكرار جريمة قتل 112 مليون رجل وامرأة وطفل.. استبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة.
إن الحديث عن المقاومة السلمية في مواجهة العدو الصهيوني يعني أن يتحول كل أهل فلسطين حاليا، ثم كل العرب في دول الجوار، إلى "الهنود الحمر الجدد".. سيكون مصيرهم الوحيد هو القتل والاختفاء من على وجه الأرض.. تماما كما اختفى 400 شعب، وتقلص عددهم من أكثر من 112 مليون إلى ربع مليون شخص.
في رسالة له عام 1996، قال مايكل هولي إيجل، أحد نشطاء هنود شعب سو: "تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويا الله ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون.. إن جلادنا المقدس واحد".
لقد تعلمت الشعوب لاحقا الدرس من تجربة السكان الأصليين لقارة أمريكا الشمالية، لقد عرفوا أن السلاح والمقاومة المسلحة هما الحل الوحيد لمواجهة الاحتلال بوجه عام، والاحتلال على طريقة أمريكا وإسرائيل بوجه خاص، فإما أن تقاوم بكل ما لديك من قوة، أو سيكون مصيرك الاختفاء والانتهاء كما حصل مع الهنود الحمر.
تعلمت الشعوب الدرس.. لكن يأبى أمثال البرادعي وعمرو حمزاوي أن يتعلموه.. كما تأبى بعض النخب العربية أن تتعلمه.. لكن هؤلاء وآرائهم وترهاتهم لا يجب أن يشكلوا فارقا، لأنهم بالفعل لا يشكلوا فارقا في معادلة القوة.. التي فطن إليها القنصل الروماني جلاوس حين قال: إما أن تقهر عدوك، أو لتقبل مصير المقهورين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق