أتيليو بورون- مفكّر ماركسي أرجنتيني
ترجمة: لينا الحسيني
يُعتبر سقوط كابول في أيدي طالبان علامة فارقة تشير إلى نهاية التحوّل الجيوسياسي العالمي.
خضع النّظام الدّولي لتغييرات كبيرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من هيروشيما وناكازاكي، إلى الهزيمة التي ألحقها الجيش الأحمر بالنّازية في أوروبا، ما أدى إلى ولادة ما يسمى بـ "النظام ثنائي القطب".
سقوط جدار برلين وتفكّك الاتحاد السّوفياتي في أواخر عام 1991 مهّدا لنهاية تلك الحقبة وبداية حقبة جديدة أثارت أوهام الاستراتيجيين والأكاديميين الأمريكيين الذين كانوا سعداء بقدوم ما سيصبح "القرن الأمريكي الجديد".
حذّر زبيغنيو بريجنسكي، دون جدوى، من هشاشة النظام أحادي القطب ومخاطر مثل هذا السراب الخطير. تأكدت مخاوفه في 11 سبتمبر 2001 عندما تلاشى الوهم أحادي القطب مع سقوط البرجين. تعدّد الأقطاب الجديدة للقوى العالمية، الحكومية وغير الحكومية، الذي ظهر بقوة بعد ذلك الحدث- أو بالأحرى الذي أصبح مرئيًا بعد ذلك التّاريخ - هو بمثابة شهادة ميلاد لمرحلة عالميّة جديدة ثثمثّل بتعدّد الأقطاب.
اقرأ أيضا: من يحكم العالم؟ الإجابة عند برتراند راسل
كانت "الحركة التّقدميّة" في أمريكا اللاتينية في خلفية هذا الواقع الجديد الذي واجهت فيه الهيمنة الأمريكية صعوبات متزايدة في فرض مصالحها وأولوياتها.
صعود الصّين وتزايد فعاليتها في الاقتصاد العالمي، وعودة روسيا إلى واجهة السّياسة العالمية بعد كسوفٍ دام لسنوات في عهد بوريس يلتسين، كانت من السّمات الرّئيسة للنظام الجديد الناشئ.
بالنّسبة للعديد من المحلّلين، وُجدت التّعدّدية القطبيّة لتبقى، ومن هنا جاءت فكرة "التحوّل الجيوسياسي العالمي" الطويل.
تمكنت الولايات المتحدة، بميزانيتها العسكرية الهائلة والنطاق العالمي لقواعدها ومؤسساتها أن تعوّض ضعفها في مجالات أخرى (الاقتصاد والنّمو التكنولوجي) وأمّنت التّوازن من خلال احتواء الخلافات بين حلفائها وإبقاء القوى المنافسة في وضعٍ حرج في البؤر السّاخنة للنظام الدولي. لكنّها تعرضت إلى نكسة بسبب المغامرة العسكرية التي أطلقها باراك أوباما في سوريا، ما أعاد لروسيا دورها العسكري المفقود، كما أنّ الهزيمة الكارثيّة في أفغانستان، بعد عشرين عامًا من الحرب وإهدار 2 تريليون دولار بالإضافة إلى المعاناة الإنسانية التي لا توصف الناتجة عن الهوس الإمبريالي، طوَت هذه المرحلة نهائيًا.
يمثّل دخول طالبان إلى كابول، ظهور نظام دولي جديد يتّسم بوجود ثالوث مهيمن يتكوّن من الولايات المتحدة والصّين وروسيا، ليحلّ محل الحلف بين واشنطن والدّول الأوروبية واليابان.
اقرأ أيضا: جورباتشوف: العالم على شفا حرب باردة جديدة.. ربما تكون قد بدأت بالفعل
من هنا جاء وهم ادعاء جو بايدن بقدرته على استدعاء دول العالم الرئيسة إلى طاولة المفاوضات، باعتبار الولايات المتحدة في موقع القمة، ومحاولته وضع القواعد والمبادئ التوجيهية الجديدة التي ستسود في النظام الدولي، لأنّه بحسب قوله، لا يمكن السّماح للصينيين والرّوس بتولي مثل هذه المهمّة الدقيقة. لكن كلماته أصبحت حبرًا على ورق، واحتلّ مكانها مثلثٌ لا رأس له، يتكون من الولايات المتحدة الاميركية الى جانب الصين، الرّائدة اقتصاديًا وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، نظرًا لما تمثّله من قوّة هائلة في الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة؛ بالاضافة إلى روسيا، مركز الطاقة، وثاني ترسانة نووية على هذا الكوكب والبطل التقليدي للسياسة الدولية منذ بداية القرن الثامن عشر، كلاهما (الصّين وروسيا) وضعا حدًّا لأسبقية الولايات المتّحدة التي لا تقاوم.
سيتعيّن على بايدن أن يتفاوض لأوّل مرّة في التاريخ مع قوتين تعتبرهما واشنطن أعداء.
حيل ترامب الدعائية لا قيمة لها: "لنجعل أميركا عظيمة مرّة أخرى" أو أحدث حِيَل بايدن: "أمريكا عادت".
في المرحلة الجديدة، ينبغي أن نأخذ في عين الاعتبار العوامل الحقيقية التي تحدّد قوّة الأمم: الاقتصاد، والموارد الطبيعيّة، والسّكان، والأراضي، والتكنولوجيا، ونوعيّة القيادة، والقوّات المسلّحة، وجميع أدوات "القوة الناعمة".
في الآونة الأخيرة، كانت الولايات المتحدة الاميركية تسعى في خطابها إلى التأكيد على قدرتها الإمبريالية. ولكن إذا لم تتمكن قواتها من الانتصار في واحدة من أفقر البلدان وأكثرها تخلفًا في العالم، فلن تتمكن هوليوود والأوليغارشية الإعلامية العالمية بأكملها من صنع المعجزات.
اقرأ أيضا: عرض كتاب| استشراف المستقبل في المائة عام القادمة للمؤلف جورج فريدمان
لن تكون هذه المرحلة الوليدة من النظام الدولي خالية من المخاطر والتّهديدات من جميع الأنواع، لكنّها تفتح فرصًا جديدة لشعوب ودول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق