أحدث الموضوعات
recent

د. عاطف معتمد يكتب: كنز عظيم على قارعة الطريق!


أخذت الصورة المرفقة من آخر زيارة إلى شبه جزيرة سيناء. قليل من الجغرافيين، وكثير من الجيولوجيين، يعرفون هذا المكان ويقفون أمامه وقد ألجمت الدهشة ألسنتهم.

كنت قد أخذت الصورة ناظرا في اتجاه نويبع ودهب ومن خلفي يمتد الطريق إلى طابا وخط الحدود.

هذا مشهد فريد وحيد لا يوجد في أي مكان آخر من الأراضي المصرية. بل هو أحد المواقع النادرة في العالم. 

تعرف هذه النقطة باسم "الطية المستلقية لدرجة الانقلاب Overturned and recumbent " أي أن صخور الأرض هنا لم تتعرض للطي والالتواء فحسب، بل وصلت درجة الطي والالتواء فيها إلى حد الاستلقاء على الجانب ثم الانقلاب (كما في الإطار الأبيض في الصورة).

يحتاج الدرس الجيولوجي هنا إلى شرح واف مستفيض لقصة عشرات ملايين السنين، ولا سيما حين تعرضت هذه الصخور  التي تنتمي إلى عصر الكريتاسي لحركات بنيوية ديناميكية فريدة وكاشفة خلقت تاريخ الأرض في سيناء، وسيناء هنا مفتاح لفهم تاريخ الأرض في العالم.

وسأترك هذه المهمة لأهل التخصص الذين ألفوا بحوثا وكتبوا عنها في مراجع كثيرة. أما الذي أود أن اكتب عنه بإيجاز هنا فهو الخطر الكبير الذي يتهدد هذه المنطقة الكنز.

لقد شق الطريق الأسفلتي منذ عقود طويلة، حين تحول من درب ضيق للجـِمال في العصور الوسطى إلى مدق ممهد في زمن الاحتلال الإنجليزي ومن بعده في العصر الجمهوري، ثم تدعمت أهمية الطريق عسكريا بدرجة خطيرة خلال السنوات التي احتلت فيها إسرائيل سيناء.

وبعد استرداد سيناء – بالحرب والسلام – تعرضت المنطقة لاستثمارات سياحية مصرية مكثفة خلال عهد حسني مبارك، ولا سيما النشاط السياحي في التسعينيات ومطلع الألفية الجديدة.  وحين زرت هذه المنطقة وأجريت لها فحصا ميدانيا في عام 2013 أصابني هم ومستني خيبة أمل.

فخلال تلك الزيارة شاهدت ثلاثة مشروعات سياحية عملت جرافاتها في إصابة هذا المكان بتشويه وتدمير. ولأني لم أعاود زيارة المنطقة - لانشغالي بالصحراء الشرقية والغربية - لا أعرف ما الذي جرى هناك !

هذا المكان يحتاج لأن يبتعد عنه الطريق الساحلي المار بخليج العقبة، بحيث يمر بين الجبال إلى الداخل، ويحتاج إلى إيقاف فوري لأي مشروع سياحي لبعض الغرف الفندقية أو المنتجعات السياحية سريعة الربح بالغة الأثر السيء.

وفي الخطوة التالية تبادر الدولة بإنشاء "متحف جيولوجي مفتوح"، له مركز معلومات يستقبل أبناء مصر من كافة المدارس والجامعات في رحلات علمية للتعرف على سيناء وأرضها وكنوزها العلمية.

ومن السهل جدا تغطية تكاليف الاستثمار بتنظيم صناعة السياحة الأجنبية إلى المنطقة، وأقول هنا "صناعة" بمعنى عمل علمي احترافي منظم يوطن في المنطقة النوع الشهير من السياحة المعروفة باسم "Geo-Tourism" أي سياحة معالم الأرض الطبيعية بتخصصاتها المختلفة: جغرافيا وجيولوجيا ومعادن وموارد مياه وعجائب الطبيعة وتفرد مناظرها وتاريخ الإنسان الذي مر بهذه الأرض منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الراهن.

ولا يجب أن تترك هذه المنطقة لأعمال الخفة والاستهتار واللامسؤولية التي يقوم بها نفر من العاملين في الإرشاد السياحي، بل يتم تعيين شباب متعلمين تعليما جيدا في الجيولجيا والجغرافيا واللغات وتاريخ الأرض: يشرحون للسياح بشكل علمي طبيعة المنطقة وقصصها التي تعود لمئات ملايين السنين,

في هذه المنطقة التي تعرضها الصورة يجب أن يمنع سير المركبات والسيارات، بل يكون تحرك الزوار سيرا على الأقدام، مع بعض عربات خفيفة لكبار السن من السائحين. 

هذا النوع من الاستثمار السياحي لا ينتمي إلى قصص رومانسية أو أمنيات عاطفية،  بل بوسعه أن يحقق أهدافا ربحية من العملات الأجنبية، علاوة على – وهو الأهم – توطين الوعي القومي لأهل مصر بوطنهم السيناوي في الداخل، وربط وادي النيل ودلتاه ربطا عضويا بهذه الأرض العميقة.

زقاق النت

زقاق النت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.