في دراسة تمت لمعرفة مدى حب البشر للتعاون في مقابل الأنانية من خلال لعبة يمارسها المتطوعون، "كان خريجو قسمي علم النفس والرياضيات يمارسون اللعبة على نحو يشابه كثيرا ممارسة الآخرين من الناس (أي أنهم يفضلون الإيثار).
أما المجموعة التي سلكت سلوكا مخالفا انفردت به كانت مجموعة خريجي قسم الاقتصاد، والذين كانوا فيما يبدو قد استوعبوا ما تم إقناعهم به من استمرار تصرف الآخرين بناء على مصلحتهم الذاتية، ومن ثم تصرفوا هم أنفسهم على نفس النحو؛ فتكرر رفضهم للتعاون بأكثر كثيرا مما فعل غيرهم من الطلبة.
إن دراسة علم الاقتصاد – أو على الأقل علم الاقتصاد كما جرت العادة على تدريسه حتى وقت قريب – يبدو أنها تجعل الناس جشعين! وكما عبَّر واضعوا الدراسة، فإن "التعرض من قريب على نموذج المصلحة الذاتية، يشجع فعلا على النموذج الأناني...".
تجربة المرافق العامة
وفي تجربة باسم "المرافق العامة"، قام بها ارنست فهر وزملاؤه في جامعة زيورخ، كان يتم توزيع مبالغ متساوية من المال وليكن عشرة دولارات لكل واحد من المتطوعين وليكن أربعة متطوعين مثلا. وكان المطلوب من كل منهم أن يتبرع بجزء من المال للاستثمار في المنافع العامة، لهم أن لا يتبرعوا بأي شيء وكذلك أن يتبرعوا بأي مبلغ أو حتى بالمبلغ كله. وعلى من يجري التجربة أن يجمع التبرعات ثم يضاعفها لهم ويقوم بتوزيع المبلغ الجديد على الجميع بالتساوي. وهكذا فكلما تبرع الأفراد بمبالغ أكبر كلما كان العائد أكبر على الجميع. أي أنه بشكل ما تصبح "الخسارة" الفردية على المدى القريب، "مكسبا" للفرد والجماعة على المدى البعيد.
اقرأ أيضا: النسوية في خدمة الرأسمالية ضد نضالات النساء الحقيقية.. ملالا يوسف نموذجا
مع بداية التجربة كان الجميع يتبرعون بمبالغ كبيرة أملاً في الحصول على عوائد كبيرة يتم تقسيمها من جديد على الجميع، ولكن شيئا فشيئا ظهر أفراد أكثر طمعا لم يتبرعوا بأي شيء ووفقا لقواعد اللعبة فقد حصلوا على نصيبهم من نتيجة تبرع الآخرين. بمعنى أن شخصا احتفظ بالعشرة دولارات، بينما الثلاثة الآخرون تبرعوا بدولاراتهم العشرة كاملة، وعندما حصل الجميع على 60 دولار فإن الشخص الذي احتفظ بالعشرة دولارات أصبح يمتلك الـ 15 دولارا نتيجة الاستثمار الذي قام به الآخرون بالإضافة إلى الـ 10 دولارات التي احتفظ بها فأصبح يمتلك 25 دولارا بينما الآخرون يمتلك كل منهم 15 دولارا فقط.
وهكذا "وجد الباحثون أن في الجولات الأولى من اللعبة تسود روح تعاون قوية. وبالرغم من أن أولئك الشديدي الحرص على مصلحتهم الخاصة سيغشون دائما، فإن معظم اللاعبين... سوف يبدأوا اللعبة بالإسهام بسخاء؛ والجماعة ككل تحقق ربحا. إلا أنه عندما يصِّر قطاعا صغيرا من الناس يصرون على الغش فسرعان ما يصير لسلوكهم تأثير خبيث على الجميع: حيث يبدأ اللاعبون الآخرون في الانتباه إلى الغش، ولا أحد يريد أن يكون مغفلا". وشيئا فشيئا أصبح اللاعبون يرتابون في بعضهم. وبدأوا يحجمون عن التبرع كلما تقدمت جولات اللعبة حيث أصبحت تسود روح الشك والثأر بدلاً من روح الإيثار والتعاون.
يتضح من التجربتين أن سلوك الإنسان ليس ثابتاً، وإنما يتغير وفقا لنوعية التعليم الذي يتلقاه في المؤسسات التعليمية المختلفة أثناء فترة الشباب، وكذلك وفقا للظروف المحيطة به، وكرد فعل لسلوك الآخرين من حوله.
التفكير في المال يعزز الفردية
هناك عدة تجارب أخرى توضح مدى الاختلاف الذي يحدث في السلوك البشري عند مجرد التفكير في المال. في إحدى تلك التجارب تم تذكير المجموعة التجريبية قبل بدء التجربة بالمال بطريقة غير مباشرة مثل عرض" كومة من أموال لعبة مونوبولي على طاولة، أو حاسوب يُظهر شاشة توقف تعرض صورة دولارات طافية على سطح الماء."
ووجِد أن "الأشخاص الذين يجري استباقهم بتعبيرات أو إشارات للمال يصبحون أكثر استقلالًا مما لو لم تتوفر مثل هذه التعبيرات أو الإشارات الترابطية كما أنهم يصبحون أكثر أنانية... وأقل ميلًا لقضاء بعض الوقت في مساعدة طالب آخر تظاهر بالارتباك في ممارسة تمرين في أحد التجارب."
وفي تجربة أخرى "قيل للمشاركين إنهم سيشاركون في حوار للتعرف على شخص آخر بعد فترة قصيرة، كما طُلِب منهم وضع كرسييْن فيما كان القائم على التجربة يستدعي ذلك الشخص. اختار المشاركون الذين يفكرون في المال الجلوس على مسافة أبعد بكثير عن محاوريهم من الذين لا يفكرون في المال... وأظهر طلاب المرحلة الجامعية الذين يفكرون في المال تفضيلًا أكبر للبقاء وحدهم". مما يؤكد على أن التفكير في المال يجعل الفرد أكثر تشككا في الآخرين وأكثر انعزالية وأنانية.
تعلم الاقتصاد وانحطاط الأخلاق
أجرى العالمان جيرالد مارويل وروث آميس تجربة تعد الأولى من نوعها لاختبار فرضية تقول بأن تعلم الاقتصاد يتسبب في انحطاط أخلاقي لدارسيه.
صمم العالمان لعبة يُعطى فيها المشاركون مجموعة من العملات المعدنية ليقوموا بتقسيمها بين حساب خاص وصندوق استثمار عام. إذا استثمر كل اللاعبين جميع عملاتهم في الصندوق العام، فسينتهي المطاف بحصول الجميع على عائد أعلى من أن يضع كل منهم أمواله في حسابه الخاص.
وعلى الرغم من ذلك، إذا انشق أحد اللاعبين واستثمر في حسابه الخاص في حين استثمر الآخرون في الصندوق العام، فسيحصل على عائد أكبر... وجد مارويل وآميس أن أغلب الدارسين قسموا ما لديهم إلى نصفين تقريبًا بين الاستثمار العام والخاص، ولكن دارسي الاقتصاد – على النقيض تمامًا – استثمروا 20% فقط مما لديهم في الصندوق العام كمتوسط.
اقرأ أيضا: عندما استخدمت الرأسمالية الفن للتخلص من "الموظفين في الأرض"
طلب الباحثون من طلاب الاقتصاد وطلاب التخصصات الأخرى ملء اثنين من "استطلاعات الصدق"، أحدهما في بداية الفصل الدراسي والآخر في نهايته، حول ما إذا كان من الممكن أن يحصلوا على سلعة ما بأقل من ثمنها، والسؤال الآخر حول ما إذا كانوا سوف يعيدوا أموالًا وجدوها إلى صاحبها.
وجد الباحثون تراجع سلوك الأمانة لدى الطلاب بعد الانتهاء من دراسة فصل في الاقتصاد أكثر من غيرهم... كما أن هناك دراسات أخرى تدعم النتائج نفسها، إذ لا يعتبر طلاب الاقتصاد، على سبيل المثال، سلوك ذلك التاجر الذي يرفع سعر زجاجات المياه المثلجة في الأيام الحارة "مستغِلًا".
كما أن طلاب الاقتصاد ممن يلعبون اليانصيب، كانوا أقل رغبة من غيرهم في تقليل مكاسبهم نظير تعويض نظرائهم الخاسرين، كما كان هؤلاء أكثر احتماليةً لقبول الرشاوى مقارنة بغيرهم، كما أن دارسي تخصصات اقتصادية بعينها لديهم معدلات أمانة أقل من غيرهم من دارسي التخصصات الاقتصادية الأخرى، وقام الباحثون بتحديد دارسي "نظرية الألعاب" باعتبارهم الأقل أمانة".
دور التنشئة في السلوك البشري
يؤكد معظم علماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس أن السلوك البشري ليس عبارة عن مسألتين: إما مسألة طبيعة أو مسألة تنشئة، ولكنها مسألة واحدة مترابطة. فنحن نولد لدينا بعض الغرائز والنزعات، ولكن عن طريق التعليم والتربية، وخياراتنا الواعية يمكننا أن نغير سلوكنا وطبيعتنا وشخصيتنا.
وهكذا فإن طريقة التنشئة والأهم من ذلك البيئة المحيطة والنظام المسيطر هو الذي يقرر تنمية السلوك التنافسي أو السلوك التعاوني لدى البشر.
ولعل هذا يتفق مع ما ذهب إليه آدم سميث منذ زمن بعيد، عندما أشار إلى أن "التفاوت في المواهب الطبيعية بين الناس المختلفين، أقل في الواقع مما ندركه... فالفرق بين أكثر الشخصيات تباينا، بين فيلسوف وحمَّال من بعض حمالي الشارع، يبدو غير ناشئ عن الطبيعة بقدر ما هو ناشئ عن العادة، والعرف والتربية. فعندما خرجا إلى الوجود، وطيلة السنوات الست أو الثماني الأولى من حياتيهما، ربما كانا متشابهين جدا، وما كان لذويهما أو لأترابهما أن يبصرا أي فرق يذكر بينهما".
اقرأ أيضا: التنوير.. أم العبث بالنصوص والحقائق؟
لقد قضى ألفي كونAlfie Kohn سبعة أعوام في مراجعة أكثر من 400 دراسة بحثية تتعامل مع المنافسة والتعاون، وانتهى في دراسته المعروفة بـNo Contest: The Case Against Competition إلى أن "المنافسة... في أي بيئة، الفصل الدراسي، أو مكان العمل، أو الأسرة، أو في الميدان الرياضي دائما ما تكون مدمرة".
المنافسة تدمر المجتمع
يقول كون: "يخسر معظم الناس في معظم اللقاءات التنافسية، ومن الواضح أن هذا ما يسبب تزايد الشكوك الذاتية. ولكن حتى الفوز لا يبني الشخصية، ولكنه يوفر للطفل الفائز قدر مؤقت من السعادة الشامتة في خسارة الآخرين. وقد أثبتت الدراسات أن مشاعر تقييم الذات، أصبحت معتمِدة على مصادر التقييم الخارجية نتيجة للمنافسة، والأسوأ من ذلك أنك تصبح شخصا جيدا كلما هزمت عددا أكبر من الأشخاص.
حتى عندما ينجح الطفل في الفوز، تصبح القضية برمتها، من الناحية النفسية، حلقة مفرغة: فكلما كان يتنافس، كلما احتاج إلى التنافس ليشعر بالرضا عن نفسه... توصل الباحثون في جميع أنحاء العالم إلى أن المنافسة غالبا ما تجعل الأطفال قلقين، كما أنها تتداخل مع التركيز... فالطالب عندما يركز على المكافأة يصبح اهتمامه بما يفعله أقل، فينخفض أداؤه... لا يمكن للجميع الفوز في المسابقة، فإذا فاز واحد لا يستطيع آخر، وهذا يعني أن كل طفل يعتبر الآخرين عقبات أمام نجاحه... تؤدي المنافسة إلى تحمس الأطفال للفائزين، وللقضاء على الخاسرين...، والتشكك في الجميع. تجعل المنافسة من الصعب اعتبار الآخرين أصدقاء أو متعاونين محتملين؛ حتى لو لم تكن منافسي اليوم، فقد تكون غدا".
وقد أثبتت إحدى الدراسات أن الأفراد الذين نشأوا في ألمانيا الغربية بتوجهها الرأسمالي كانوا يتصفون بدرجات نرجسية كبيرة أعلى من نظرائهم الذين نشأوا في ألمانيا الشرقية ذات التوجه الاشتراكي، بل كانت نسبة احترام الذات أيضا منخفضة لدى من نشأوا في ألمانيا الغربية عن نظرائهم في ألمانيا الشرقية الذين تمتعوا بنسب أعلى من احترام الذات.
المنافسة طريق الاكتئاب
لا تتوقف الآثار السيئة لانتشار قيم المنافسة بين أفراد المجتمع على الشعور بالقلق والضيق والتوتر والتشكك في الآخرين وانخفاض احترام الذات، بل تؤكد العديد من الدراسات في مجال علم النفس على وجود علاقة بين ثقافة التنافس السائدة في المجتمع وبين مرض الاكتئاب الآخذ في الانتشار السريع بين البشر في جميع المجتمعات في العقود القليلة الماضية.
و"إحدى طرق ملاحظة العلاقة بين الاكتئاب والمنافسة تتمثل في العلاقة الإحصائية المتبادلة بين معدلات تشخيص الاكتئاب ومستويات التفاوت الاقتصادي بالمجتمع. فوظيفة التنافس على أية حال هي إنتاج عائد غير متساو. وتسجل المجتمعات الأكثر مساواة... مستويات اكتئاب أقل ومستويات رفاهية أعلى إجمالا، في حين يتفشى الاكتئاب في المجتمعات التي تعاني اللامساواة بصورة حادة... وتشدد الإحصاءات كذلك على أن العوز النسبي – أي أن تكون فقيرا مقارنة بالآخرين حولك – يمكنه أن يسبب بؤسا مماثلا لما قد يؤدي إليه العوز المطلق (أي عدم القدرة على تلبية الحاجات البشرية الأساسية)، طارحة بذلك أن الإحساس بالدونية وحالة القلق هما ما يشعلان شرارة الاكتئاب.
اقرأ أيضا: أمازون.. وحش استعماري يحتكر الثروة والزبون ويهدر حقوق العمال
إن روح المنافسة ذاتها قد تسبب الاكتئاب، لتصيب به لا الخاسرين فقط، بل الرابحين أيضا... كانت دراسة أجريت في جامعة جورج تاون قد اكتشفت أن احتمال إصابة لاعبي كرة القدم الجامعيين بالاكتئاب يبلغ ضعف احتمال إصابة من لا يمارسون اللعبة.
واكتشفت دراسة أخرى أن النساء الرياضيات يكشفن عن سمات شخصية مشابهة لسمات من يعانين اضطرابات في الأكل... كما أجرى عالم النفس الأمريكي تيم كاسرTim Kasser سلسلة من التجارب والدراسات المسحية، كشفت عن ارتباط القيم الطموحة المنصبة على النقود والمنزلة والنفوذ، باحتمالات أكبر للإصابة بالاكتئاب وإحساس أدنى بتحقيق الذات. فكلما نقيس جدارتنا الذاتية بالنسبة إلى الآخرين، لأن كل المنافسات تضطرنا لذلك، فإننا بذلك نخاطر بفقدان إحساسنا بقيمة الذات تماما.
خدعة الموهبة الاستثنائية
وقد كشف علماء النفس أن الأفراد يميلون إلى الإحساس بسعادة أكبر إذا ما نسبوا إلى أنفسهم الفضل في نجاحاتهم، لا إخفاقاتهم. وقد يبدو ذلك أحد أعراض التوهم، لكن يمكن القول إنه ليس أكثر توهما من ثقافة تنافسية اكتئابيه تنسب كل نجاح وكل إخفاق إلى قدرة وجهد الفرد".
وقد يفسر ذلك السلوك الذي يتبعه غالبية من استطاعوا تحقيق نجاح مادي كبير من أن ما صنعوه من مال يرجع بالأساس إلى مواهبهم الاستثنائي ومثابرتهم... إلخ. وعندما يصدق الأشخاص البائسون ذلك، لا يصبح لديهم غير الاستسلام للأمر الواقع في النهاية، بأن قدراتهم محدودة بالنسبة لهؤلاء الأثرياء العظماء، فلا يلومون إلا أنفسهم.
وبالانتقال من علم النفس إلى علم الأحياء، نجد أن الدراسات في ذلك المجال تشير إلى أن التعاون هو القاعدة في الطبيعة وليس التنافس، لأن التعاون يؤدي إلى استخدام أكثر كفاءة للطاقة، وحتى الحيوانات المفترسة وفرائسها تحافظ فيما بينها على نوع ما من التعايش المتوازن.
ولذلك فإنه من الأجدر بالحيوانات من نفس النوع والفصيلة، وكذلك البشر فيما بينهم تحقيق ذلك التعايش المتوازن. لقد وجد علماء الأحياء أن الطبيعة تستخدم تقنيات مبتكرة للغاية لتجنب الصراع والمنافسة، وأن هذا التعاون ينتشر بشكل واسع للغاية في جميع أنحاء الطبيعة.
هناك عامل بيولوجي آخر متعلق بالتعاون، وهو الأوكسايتوسين Oxytosin، وهو موصل عصبي neuro-peptide مسؤول عن التعلق الاجتماعي والانتماء. وهو مفتاح الترابط بين الأم والطفل، وبين العشاق، وأيضا بين الأصدقاء. وعندما يُستثار هذا الموصل العصبي فإنه يقلل الخوف ويزيد الثقة والتعاطف مما يؤدي إلى سلوك أكثر تعاونا.
وهكذا، يتضح أن التعاون يرتبط بكل ما فيه راحة واطمئنان وثقة وتعاطف وانتماء وتواصل مثمر وتآزر، بينما يرتبط التنافس بالتوتر والقلق والانزعاج والتوجس والتصارع والتشاحن والتباعد والانعزال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق