أسامة غريب يكتب: الفلوس يا حرامية!





هناك من الحكام الطغاة من بدأوا عهودهم زُهّادًا متواضعين، غير أن المنافقين والشماشرجية دفعوهم دفعًا لأن يتغيروا بعد أن صوروا لهم عبر موجات النفاق الكاسح أنهم عباقرة ملهمون، وأنه ليس مثلهم بشر آخر وأن لهم رسالة بعثتهم الأقدار لتبليغها والقيام عليها.

من هذا النموذج سفاح ليبيا معمر القذافي الذي كان يظن حقًا أنه فيلسوف ومفكر وأديب وقائد أممي وعميد حكام العالم.. لقد أقنعه المنافقون بذلك فصدقه وغاب في بحر الضلالات والهلاوس لعشرات السنين دفعت ليبيا ثمنها من رخائها و تقدمها، حتى كانت النهاية الفاجعة للشيطان المجنون.

أما بالنسبة لحسني مبارك فالأمر يختلف اختلافًا بينًا، فتأثير النفاق عليه ورد فعله هو على المدّاحين وحملة المباخر لم يكن نفسه بالنسبة لشخص كالقذافي.. لم يكن مبارك مجنونًا ولم يفقد عقله لحظة واحدة، كما أن النفاق لم يسكره أو يفقده توازنه، ذلك لأنه بدا دائمًا أكثر دهاءً ومكرًا من كل جوقته الفاسدة، ويمكنني أن أزعم أن كل ما حدث لمصر من خراب على مدى سنواته الملعونة يعزي في جانب منه إلى أن الرجل لم يصدق المنافقين ولم يقتنع بما نسبوه إليه من ذكاء وحكمة وبأنه عظيم العظماء وأذكى الأذكياء وصاحب نظريات تصلح لقيادة العالم وإخراج البشرية من الظلمات إلي النور!

ربما لو كان اقتنع لحاول أن يقدم خيرًا من أي نوع للناس يحملهم على مزيد من الإيمان به، لكنه لم يصدق. وفي ظني أنه كان يسخر منهم في داخله كلما تحدثوا عن حكمته وبعد نظره، لأنه شخصيًا يعلم ابتعاده عن الحكمة ومنابعها.. إلا لو كانت الحكمة هي أكل الطعام وهضمه والنوم والشخير!

وكان مبارك بالتأكيد يهزأ بمن يزعمون أنه راعي الثقافة وعم المثقفين، لأن آخر كتاب قرأه في حياته هو كتاب المطالعة الرشيدة، ثم إنه يدرك عن نفسه كراهيتها للقراءة والتفكير الذي يزعج العقل الساكن المستريح. كذلك كلامهم عن رعايته للفقراء وسهره الليل يفكر في حلول لمشاكلهم.. كل ذلك لم يكن يستدعِ سوى ازدرائه وسخريته.. ببساطة لإدراكه أن هؤلاء الفقراء لم يكن لهم أن يعانوا بهذا الشكل الحاد لو لم يقم هو وأفراد أسرته وأصدقاؤهم بسرقة فلوس السكن والعلاج والتعليم ومياه الشرب والصرف الصحي وتطهير الترع.
الخلاصة أن مبارك لم يكن يسكره النفاق، لكنه مع ذلك كان يكافيء المنافقين ليكسر نفوسهم مقابل فلوس لم يدفع من جيبه منها شيئًا، وكذلك حتى يعوّد الناس على الانحراف وسوء الخلق ويضرب لهم الأمثال الوضيعة!

والآن بعد صدور حكم محكمة النقض بإدانته وولديه بالسرقة، ألا يحق لنا أن نتساءل عن مصير الأموال التي سرقوها وأودعوها بالخارج؟

في الحقيقة إننا لم نكن في حاجة إلى أحكام قضائية نهائية وباتة لنعرف أن الرجل وعائلته من أكابر اللصوص.. كان يكفينا الفيلات الخمس بشرم الشيخ التي أخذها من حسين سالم بملاليم مقابل تسهيل أعماله، وكان يكفينا ما ذكره المستشار عاصم الجوهري رئيس جهاز الكسب غير المشروع في أكتوبر 2011 بعد التحقيق مع مبارك والعائلة الكريمة من أن اللجنة تمكنت من اكتشاف مبلغ 340 مليون دولار مودعة في حساب باسم جمال وعلاء مبارك، وهو الأمر الذي أكده المحامي فريد الديب وزاد عليه بأن هذا المبلغ ليس من اكتشاف لجنة التحقيق وإنما موكلاه هما اللذان بادرا من تلقاء نفسيهما بالإبلاغ عنها في 30 مايو 2011 في تحقيقات جهاز الكسب غير المشروع وحددا البنوك السويسرية المودعة فيها ومصادر وتواريخ حصولهما عليها وكلها مصادر مشروعة لا علاقة لها بمصر!

فريد الديب يقر بأن علاء و جمال يمتلكان 340 مليون دولار (حوالي ثلاثة مليارات جنيه) ثم يضيف بأنهما يمتلكان أيضًا مائة وخمسون مليون جنيه مودعة بالبنوك المصرية، وهي أموال حلال لا علاقة للدولة المصرية بها.. أي دولة إذن سمحت لهما بمراكمة هذه الأموال.. هل هي موزمبيق أم ليتوانيا؟ وأي عمل هذا الذي يدر على الناس أموالًا بهذا القدر؟ إن الجنين في بطن أمه يعلم أنها أموال مسروقة، ومن سرقوها لا ينكرون وجودها، فماذا نحتاج لنطالب بها بعد أن أمدنا القضاء بحكم نهائي عليه ختم النسر يفيد بأن مبارك وولديه “حرامية”، وللعلم هذا الحكم يسهل جدًا مهمة من يريد استرجاع الأموال المسروقة.

إننا لن نفرح بالاكتفاء بتجريد مبارك من أوسمته ونياشينه، وهو نفسه لا تشغله هذه الأمور لأنه لم يحصل علي أي شيء منها بجدارة واستحقاق.. ما يعني مبارك هو الفلوس التي سرقها من شعب مصر.

لقد نام هذا الموضوع طوال السنتين الماضيتين ولم يبد أن أحدًا يرغب في الحديث عنه، بينما الفلوس جاهزة في سويسرا ولا ينقصها سوى أن نمد أيدينا فنأخذها.


لقد ساعدت سويسرا الكثير من الشعوب المنهوبة وأرجعت إلى تونس جانبًا من مسروقات بن علي، كما ساعدت نيجيريا وموزمبيق وغيرهما على استرجاع ما سرقه الحكام اللصوص منها، فما الذي يغل يدنا عن محاسبة مبارك محاسبة حقيقية وإعادة أموالنا التي سرقها ومعه أصدقائه بدلًا من الاقتراض والاستدانة من خلق الله.. هل من مجيب؟

زقاق النت

زقاق النت

مواضيع ذات صلة:

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.