* عبدالرحمن كمال
(1)
يروج الإعلام المصري ولجان النظام الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض من المفكرين والنخب والشباب لتغيير جديد في سياسة النظام المصري الخارجية، مدفوعين في ذلك التهليل بتغير الموقف المصري من العدوان الصهيوني الأخير على فلسطين وغزة ودوره في إنجاح الهدنة بين العدو وفصائل المقاومة.
غير أن أهم ما تطرق له بعض المحللين على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، من كتاب ونشطاء وسياسيين من المعسكرين (المؤيد للنظام والرافض له) هو أن هذا التغير في السياسة الخارجية لمصر مقدمة لاستخدام الثُقل المصري في حلحلة الأمور في الملف الأخطر على وجود مصر على مر تاريخها منذ بدء الخليقة.. والحديث بالطبع عن سد الخراب في الحبشة.
قبل الحديث عن أسوأ مخاطر السد التي باتت أقرب إلينا من حبل الوريد، تجدر الإشارة إلى مجموعة من الوقائع والتفاصيل التي تساعدنا في فهم ما يحدث، وبالتالي معرفة عدونا الذي يجب أن نتوجه إليه لمحاربته، وفهم أفضل للوضع الحاصل منذ سنوات ولم يكن وليد اللحظة، أبرز هذه الحقائق:
- سدالنهضة مثل كل سدود العالم، من ضمن الاستثمارات الحصرية الخاصة بالبنك الدولي (الولايات المتحدة بشكل أدق) فهو الموكل إليه إنشاء دراسات السدود وتدشينها، ولعل هذا يفسر رفض البنك تمويل بناء السد العالي في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وهو ما رد عليه الرئيس الراحل بتأميم قناة السويس والتوجه إلى الاتحاد السوفيتي لتمويل بناء السد العالي. على مر 6 سنوات، لم يحدث أن أدرجت أثيوبيا في ميزانيتها بنود تمويل السد، ذلك أن من يمول السد ليست أثيوبيا أو حتى قطر والسعودية والإمارات، بل البنك الدولي هو من يملك ويدير ويصمم ويمول سد النهضة.
اقرأ أيضا: لماذا يستمع السيسي لنصائح أحمد عكاشة أستاذ الأمراض النفسية؟
- البنك الدولي له طريقة معروفة في بناء وتمويل السدود في كافة أنحاء العالم. تعتمد الطريقة على إسناد تمويل وبناء السدود إلى أشخاص وليس دول، إسناد التمويل إلى مليارديرات (بليونيرات) كبار حول العالم، ولا ينسى البنك الدولي بالطبع لمن يؤدي دوره المطلوب منه من هؤلاء البليونيرات ويتم تعويضه لاحقا بنهب ثروات أماكن أخرى.. هذه طريقة عمل البنك الدولي الذي يمول في آسيا فقط 80 سد في دول مختلفة، هذه هي الهندسة العالمية التي ينتهجها محرك البنك الدولي (الولايات المتحدة) للوضع الدولي حتى تكون كل الدول مرتبطة بالبنك الدولي وتحت رحمته وبالتالي يسهل السيطرة والتحكم في الوضع الدولي.
(2)
- من الوهلة لوصوله إلى سدة الحكم (بعد انقلاب 30 يونيو 2013) كان عبدالفتاح السيسي (أبو 50% بزعم التيار الإسلامي) يعلم تمام العلم أن مفتاح بقائه في الحكم هو:
* الطاعة العمياء للبنك الدولي في كل شيء، سواء الاقتصاد أو مسألة سد النهضة.
* الطاعة العمياء للعدو الصهيوني.
- من هنا، سلّم السيسي مفاتيح مصر وملكها وسيادتها واقتصادها للطرفين، فضمن البقاء في الحكم طويلا، مهما كان الجالس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، ديمقراطيا كان أو جمهوريا، لهذا، انتخاب بايدن لن يفرق كثيرا أو يؤثر في وضع السيسي في مصر.
اللافت أن أول ما فعله السيسي بعد انقلاب 2013 هو استئناف بناء السحارات تحت قناة السويس، بتدشين 4 سحارات مرة واحدة (غرضها الوحيد نقل المياه إلى إسرائيل) ثم في 2015 وقع على اتفاقية التفريط في حقوق مصر التاريخية في مياه النيل.
- أثيوبيا لا تملك مطلقا أي سيادة على سد النهضة، كل علاقتها بالسد أنه يقام على أراض استولوا عليها بموجب اتفاق ظالم مثل وعد بلفور (الأرض ملك بني شنقول وهم عرب)، ورئيس وزراء إثيوبيا مثله مثل السيسي، لا يملك من أمر نفسه شيئا، هو مجرد موظف عند البنك الدولي، لا هو صاحب قرار، ولا إثيوبيا نفسها ذات سيادة على السد.
- الأرض التي يقام عليها تقع ضمن إقليم بني شنقول وهم عرب كانوا جزء من دولة السودان، قبل ان تقرر بريطانيا فصل الإقليم ومنحه لإثيوبيا، وهذا التصرف في حد ذاته يشير إلى أن حروب المياه ليست وليدة اللحظة، بل قديمة قدم الاستعمار التقليدي، وأن الخطوة كانت تمهيدا لتعطيش مصر والسودان، ومن ثم إحكام السيطرة المطلقة عليهما، بما كانت تمثله مصر من أهمية قصوى للامبراطورية البريطانية (يكفي أن نعرف أن تأميم قناة السويس وخسارة بريطانيا في العدوان الثلاثي يصنف على أنه أسوأ هزيمة تلقتها بريطانيا في القرن الماضي، ويصنفه المفكرون والساسة على أنه الإعلان الفعلي لاندحار الامبراطورية وتولي أمريكا الدفة بدلا من بريطانيا).
وبالتالي، لو أن مصر جادة في التعامل مع هذا التهديد، فعليها دعم بني شنقول بكل السبل المتاحة والممكنة وغير الممكنة، وعلى رأسها بالطبع الدعم العسكري والدبلوماسي لينال الإقليم استقلاله (لكنه أمر مستبعد، أن يدعم عسكر كامب ديفيد في مصر استقلال بني شنقول، ومصر من الأساس دولة غير مستقلة ولا تملك قرارها).
اقرأ أيضا: فورين بوليسي: السيسي تنازل عن الاقتصاد المصري للجيش ليظل راضيا عنه
- الجيش المصري هو أكثر الأطراف حرصا على حماية وسلامة سد النهضة، أكثر حتى من اثيوبيا نفسها. بل إن الجيش المصري لو عرف أن طرف ما ينوي تنفيذ ضربة عسكرية ضد السد، سيكون أول من يتصدى له. وأعيد تأكيد هذا الكلام بمناسبة حالة التفاؤل المفرطة بإمكانية توجيه مصر ضربة عسكرية لسد النهضة على إثر مناورات حماة النيل المشتركة مع السودان.
ومن المهم أن نعلم جميعا حقيقة راسخة، ألا وهي أن الجيش المصري يرى أنه باتت من واجباته التي لا يجرؤ على التخلي عنها، حماية استثمارات البنك الدولي (المالك الفعلي لسد النهضة، اثيوبيا كل علاقتها بالسد أنه يقام على أراضي استولوا عليها وتخضع لسيادتهم) وبالتالي هو أكثر الحريصين على حماية استثمار البنك الدولي المتمثل في سد النهضة، بل إن السيسي نفسه سبق وهاجم في يوليو 2020 الإعلام المصري وكل من يروج لتنفيذ عمل عسكري ضد اثيوبيا، وحتى عندما تجرأ في تصريح قبل أسابيع عن خطوط حمراء لن يسمح بتجاوزها في مجمل حديثه عن السد، تراجع عنها بعدها بأيام وتحدث عن أن المفاوضات ستأخذ وقتا (الرجل يفاوض قاتل مصر لمنحها بعض الوقت قبل الموت تقريبا).
(3)
إن وجود محبس على نهر النيل خارج مصر هو في الحقيقة محبس على إرادة مصر، بغض النظر عن أي تعهدات أو مفاوضات، والقبول به خيانة، والتفاوض حوله خيانة أكبر. إن سد النهضة في حقيقته هو تتمة لعملية صيد الديك الرومي التي بدأت في 1965، ولعل ما يؤكد ذلك أن خطة البنك الدولي لبناء السدود على نهر النيل بدأت في 1964، بعد فشله في الحصول على حقوق بناء السد العالي، لينطلق مبعوث البيت الأبيض ورجل المخابرات الأمريكي إريك جونستون في التنسيق بين أثيوبيا والولايات المتحدة، وتوافق الحكومة الأمريكية على الطلب الإثيوبي في إمكانية التعاون معه للقيام بدراسة شاملة لحوض النيل الأزرق.
وجرى التوقيع على اتفاق رسمي بين الحكومتين في 9 أغسطس 1957، ثم كلف مكتب الاستصلاح الأمريكي US Bureau of Reclamation التابع لوزارة الداخلية الأمريكية للمشاركة في المشروع المشترك بعنوان "البرنامج التعاوني للولايات المتحدة الأمريكية وإثيوبيا لدراسة حوض النيل الأزرق"، واستمرت تلك الدراسة المكثفة للمشروع لمدة خمس سنوات (1958-1964). وكان ذلك إبان قرار مصر اللجوء للاتحاد السوڤيتي لبناء السد العالي في مصر (1960-1970) وفي أعقاب انهيار مبدأ أيزنهاور في الأزمة السورية 1957.
وانتهت تلك الدراسة بتقديم تقريراً شاملاً عن الهيدرولوجيا ونوعية المياه، شكل سطح الأرض، والجيولوجيا والموارد المعدنية، والمياه الجوفية، استخدام الأرض، وأخيراً الحالة الاجتماعية والاقتصادية لحوالي 25 حوض فرعي وأعلنت الدراسة من خلال 7 مجلدات مكونة من تقرير رئيسي بعنوان "الموارد الأرضية والمائية للنيل الأزرق" 6 ملاحق عام 1964. وقام المكتب الأمريكي بتحديد 26 موقعاً لإنشاء السدود أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق الرئيسي: كارادوبي، مابيل، مانديا، وسد الحدود (النهضة) بإجمالي قدرة تخزين 81 مليار م³. وهو ما يعادل جملة الإيراد السنوي للنيل الأزرق مرة ونصف تقريباً. بعض الدراسات الحديثة زادت من السعة التخزينية لسد ماندايا من 15.9 مليار م³ إلى 49.2 مليار م³، وسد النهضة من 11.1 مليار م³ إلى 13.3 مليار م³، وألغت سد مابيل واقترحت سد باكو أبو بدلاً منه.
وعلى ما يبدو فإن الديك الرومي لم يكن المقصود به (كما ترسخ في الأذهان) أنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي سقط في 1967، بل كان مصر، التي لم تسقط حتى تركيب المحبس الآن.
اقرأ أيضا: هوجة الخدمة المدنية.. بص العصفورة
وبالتالي، فإن سد الحبشة أو سد الخراب، هو في حقيقته إتمام للعملية التي أجهزت على مشروع التحرر الوطني الذي كان يقوده عبدالناصر، ودوره الآن وهدفه الأهم هو أن يصبح وسيلة لتركيع مصر مستقبلا في حالة ظهر رئيس مصري وطني أراد العمل على استعادة حقوق مصر التي فرط فيها الخونة، وإعادة مصر دولة مستقلة. السد غرضه أن يمنع ظهور أي مشروع وطني للاستقلال في مصر، أن يمنع ظهور عبدالناصر جديد إن جاز التعبير (مع كامل الحق لمن يرغب في الاختلاف مع تجربة عبدالناصر على أساس وطني موضوعي)، فالنظام الدولي يحتاج لضوابط على جميع دول العالم، يمكنه استخدامها في حال ظهور قيادة سياسية تعارض توجيهات النظام الدولي. لذلك فهو لا يطمئن كثيرا لمصر لمجرد وجود حاكم موالي (سواء كان السيسي أو مرسي). النظام الدولي يريد لجام يمكنه استخدامه لو ظهرت في مصر قيادة مناوئة له راغبة في تحرير مصر. هذا اللجام هو سد النهضة.
(4)
غير أن من أخطر النتائج الكارثية لسد الخراب، بخلاف التعطيش والتلجيم، أنه مقدمة لتقسيم مصر لدويلات!
سد الحبشة، ليس فقط لتعطيش مصر وقتل شعبها بل أن الطامة الكبرى هي أن السد سيكون الانتهاء منه، هو في حد ذاته بداية فترة تفتيت مصر إلى دويلات. وإذا كان تفكيك الاتحاد السوفيتي اعتمد على إثارة النزعات القومية والدينية مما أدى إلى تفجير الإمبراطورية السوفيتية من الداخل، فإن سد النهضة نتيجته الطبيعية جفاف نهر النيل، وبالتالي يفقد النهر قيمته الطبيعية كمورد مائي، ومن ثم قيمته الديموجرافية كرابط يوحد بين أقاليم مصر في دولة واحدة، لتكون الخطوة المقبلة تفتيت هذه الدولة التي فشلت كل محاولات تقسيمها، بسبب واحد فقط هو الحفاظ على نهر النيل.
اقرأ أيضا: التفاصيل الكاملة لإقالة فريد التهامي مدير المخابرات المصرية وتعيين اللواء خالد فوزى
تاريخيا، كان النيل هو الرابط الوحيد بين مناطق وأقاليم مصر. كان النيل هو ما يجمع مصر الدولة ويوحدها على امتداد مساحتها من النوبة إلى ساحل البحر المتوسط. بل إن النيل كان الرابط الأوثق بين مصر والسودان قبل أن تصبح كل منهما دولة بحدودها المتعارفة عليها حاليا، كما أنه كان السبب الرئيس في ظهور الحضارة في وادي النيل، ولهذا قال المؤرخ الإغريقي هيرودوت إن "مصر هبة النيل"، ولم يبالغ العالم الفرنسي جاك فاندييه في دراسته "المجاعة في مصر القديمة" عندما أشار إلى أن "النيل هو الأساس الذي اعتمدت عليه الحياة المادية والاجتماعية في مصر".
سد النهضة هو في الحقيقة نبؤة العالم الراحل جمال حمدان، الذي حذر في أوراقه الخاصة من تحول مصر إلى تعبير تاريخي بدل من كونها تعبير جغرافي، أي أن مصر الدولة المعروفة بحدودها الحالةي، في طريقها لتصبح جزءا من التاريخ وتختفي كإقليم من الجغرافيا، والسبب في ذلك هو ضياع الشريان الرابط والموحد لمصر جغرافيا، ولا عزاء للشعب المصري، والسوداني أيضا الذي سيواجه نفس المصير.. التفتيت والتقسيم.
* صحفي مصري ومحرر مدونة زقاق النت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق