القرم والمسار التركي للغاز الروسي


>> المسار التركي للغاز الروسي لا يروق للأوروبيين، ولن يروق لهم، مثلما كان الحال مع «السيل الجنوبي»، لأنه سيقوى من الهيمنة الروسية في مجال الغاز، وسيمنح تركيا أيضاً فرصة للتحول مستقبلا الى أكبر وسيط لبيع الغاز الطبيعي الروسي

>> تحول موسكو من «السيل الجنوبي» إلى «السيل التركي» للغاز يحقق لموسكو أهدافاً عدة دفعة واحدة، منها استمرار روسيا كمُصدّر أساسي للغاز إلى الدول الأوروبية، وتقليص تصدير غازها الطبيعي عبر الأراضي الأوكرانية، وحل مشكلة الطاقة للقرم



هاني شادي _ السفير اللبنانية:
في العام 2005، طرحت أوكرانيا مشروعاً يُسمّى «السيل الأبيض»، يهدف إلى تشييد خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا من دون المرور بروسيا، ومن دون الاعتماد على غازها الطبيعي. وكان هذا المشروع، المدعوم غربياً، بمثابة الرد الأوكراني على الخطط الروسية لتقليص مرور الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى الأسواق الأوروبية. كما أنه كان يتناغم مع الدعوات الأوروبية المتصاعدة بضرورة تنويع مصادر الحصول على الغاز وتقليل التبعية لروسيا في هذا المجال.
واعتبر هذا المشروع أنه يمكن نقل الغاز الطبيعي غير الروسي عبر القرم الأوكرانية آنذاك، وعبر الأراضي الأوكرانية الأخرى وجورجيا إلى بلدان الاتحاد السوفياتي السابق ودول شرق أوروبا. وجرى التخطيط لنقل الغاز الأذربيجاني والتركماني والأوزبكي وغيره عبر هذا المسار الأوكراني، بهدف إضعاف الدور الكبير للغاز الروسي في الدول السوفياتية السابقة وأوروبا.

لقد استمرّ هذا المقترح يجول في خاطر القيادات الأوكرانية المختلفة خلال السنوات الماضية، بما فيها الرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش، برغم كونه كان محسوباً بدرجة أو بأخرى على روسيا. ففي صيف 2013، أعلن يانوكوفيتش أنه يرى من المنطقي تماماً العودة إلى مشروع «السيل الأبيض» لنقل الغاز عبر الأراضي الجورجية وقاع البحر الأسود والأراضي الأوكرانية، من دون المرور بالأراضي الروسية والاستعانة بتكنولوجيا تسييل الغاز في مرحلة متقدمة من هذا المشروع.

غير أن خلع يانوكوفيتش وضمّ القرم إلى روسيا العام الماضي أفسدا هذه الخطط، الأمر الذي رفع درجة معارضة الأوروبيين لمشروع «السيل الجنوبي» لنقل الغاز الروسي إلى جنوب أوروبا ووسطها.

south stream map

ولم يتوقف رد الفعل الروسي في الصراع حول مسارات نقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا عند هذا الحد، وإنما تجاوزه ليقفز إلى المسار التركي كبديل لمشروع «السيل الجنوبي».
ففي مطلع كانون الأول 2014، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته لتركيا تخلي بلاده عن «السيل الجنوبي» لنقل الغاز الروسي لمصلحة المسار التركي. وبُنيت حسابات الكرملين في هذا الموضع، برأينا، على أساس أنه لا يُوجد فرق كبير بالنسبة إلى روسيا بين «السيل الجنوبي» و «السيل التركي» الجديد، فكلاهما يحقق أحد أهداف موسكو الرئيسية باستبعاد تصدير الغاز الروسي عبر أوكرانيا، التي يمر عبرها اليوم نحو نصف الغاز الطبيعي الروسي. ولكن موسكو كانت مضطرة لمنح تركيا مكافأة مقابل هذا التعاون، تتمثل في تخفيض أسعار الغاز لها بنسبة 6 في المئة، ربما تزيد إلى 15 في المئة مستقبلا.

ومع ذلك، تُوجد شكوك في أن يؤدي خط الأنابيب الجديد لنقل الغاز عبر تركيا إلى زيادة الطلب على الغاز الروسي، لان أنقرة، في جميع الأحوال، تسعى إلى تنويع مصادر الحصول على الغاز، بما في ذلك من أذربيجان وإيران، إضافة إلى الغاز الطبيعي المسال. كما تُوجد بعض الشكوك أيضاً في شأن تخلص روسيا من مخاطر «ترانزيت» غازها الطبيعي بالاعتماد على تركيا.

لقد اعتبر مراقبون أن خطوة بوتين هذه، اضطرارية للحفاظ على هيمنة الغاز الروسي على السوق الأوروبية. فمن المعروف أن تركيا تعتبر عضواً بـ «حلف شمال الأطلسي»، وكانت شوكة لهذا الحلف في خاصرة الاتحاد السوفياتي السابق. وبرغم أن أنقرة تعترض على ضم القرم إلى روسيا، وتلعب في «الحديقة الخلفية» للروس سواء في القوقاز أو آسيا الوسطى، وتختلف مع موسكو بشأن الأزمة السورية ومصير بشار الأسد، إلا أن الكرملين غلّب مصالحه الاقتصادية التي لا تغيب عنها الأبعاد الجيوسياسية أيضاً.

لقد استغلت موسكو في خطوتها نحو تركيا التباين الحالي بين أنقرة وواشنطن والخلافات مع أوروبا حول انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. وهي تُدرك، في الوقت ذاته، أن التحالف الذي يتسم بطابع استراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية وتركيا غير قابل للطلاق.

وفي ظل الأزمة الأوكرانية، يبدو أن روسيا تراهن، ضمن رهانات أخرى، على تأمين توفير الغاز الطبيعي لشبه جزيرة القرم عبر المسار التركي الجديد. فبحسب المعلومات المتوفرة، قد تقوم موسكو بتشييد أنبوب يتفرع من «السيل التركي» بطول 40 كيلومتراً يتجه إلى القرم. وبذلك تكون قد حلت مشكلة الغاز الطبيعي هناك، وتغلبت على الصعوبات التي خلقتها سلطات كييف الجديدة في ما يتعلق بتوفير مصادر الطاقة لهذه المنطقة «العائدة» لروسيا.

وفي هذا السياق، يمكن، بدرجة ما، فهم اعتراض المفوضية الأوروبية مؤخراً على المشروع الروسي التركي للغاز الطبيعي البديل من مشروع «السيل الجنوبي»، حيث أعلنت أن هذا المشروع لا يمكن تنفيذه من دون التشاور مع المستهلكين والمفوضية. وفي هذا السياق أيضاً، يمكن فهم إعلان الشركة الالمانية للطاقة والبناء «وينتر شال» التي تشارك في تنفيذ بعض مشاريع شركة «غاز بروم» الروسية، عن عدم المشاركة في تنفيذ «السيل التركي».

لا شك في أن المسار التركي للغاز الروسي لا يروق للأوروبيين، ولن يروق لهم، مثلما كان الحال مع «السيل الجنوبي»، وذلك انطلاقاً من كون هذه المشاريع ستقوّي من الهيمنة الروسية في مجال الغاز، في وقت تحاول فيه أوروبا التخلص من تلك الهيمنة في هذا المجال. علما بأن المسار التركي الجديد للغاز الروسي لن يقوّي الروس وحدهم في صراعاتهم على السوق الأوروبية، بل سيمنح تركيا أيضاً فرصة للتحول مستقبلا الى أكبر وسيط لبيع الغاز الطبيعي الروسي، حيث سيمر الغاز عبرها إلى الاتحاد الأوروبي. 

فتحول موسكو من «السيل الجنوبي» إلى «السيل التركي» للغاز يحقق لموسكو أهدافاً عدة دفعة واحدة، منها استمرار روسيا كمُصدّر أساسي للغاز إلى الدول الأوروبية، وتقليص تصدير غازها الطبيعي عبر الأراضي الأوكرانية، وحل مشكلة الطاقة للقرم. وهذا الهدف الأخير يمثل أهمية كبرى للكرملين، في ظل صراعه الحالي مع واشنطن والدول الأوروبية حول أوكرانيا.

زقاق النت

زقاق النت

مواضيع ذات صلة:

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.