بين #ميكافيللي وأبي بكر ناجي: رؤية #الأمير في ظل #التوحش



د.أحمد حسن 
من يمعن النظر في الطرح الأيديولوجي لمكيافيللي بين دفتي كتابه "#الأمير" و"أحاديث على المقالات العشر الأولى في تاريخ تيتو ليفيو " يسترعي انتباهه للوهلة الأولى ذلك التناقض الفج الذي تحمله عبارات الكتابين ما بين تأسيس للحكم الاستبدادي، والمناداة بالحرية وتحرير الأغلال التي تثقل كاهل المواطن الفرد من قبل السلطة الحاكمة، فيجعله النقاد حينا مبشرا بألوهية الحاكم ،في حين يجعله آخرون رسولا لليبرالية باعتبارها زفرة إطلاق الأنا في وجه الطغاة على حد زعمهم .

ولكن المدقق في قراءة توازنية بين الكتابين لا يصدم كثيرا ولا تصيبه قارعة دعوى التناقض في فكر الرجل؛ إذ هو أخلص ما يكون لأطروحته وفكره التأسيسي للنظام الحاكم، فالأمير كان في آونة أزمة كادت تطيح بعرش مولاه الحاكم "لورنزو دي ميتشي" حاكم فلورنسا فاستتبع هذا بالضرورة المناداة بالحزم والحسم قرينين لسلطة حاكمة تمسك بعصم مدينته في وجه كل ثائر أو متمرد ضده ولا يبالي في الحفاظ على عرشه باتخاذ أي وسيلة تمكنه من ذلك فيكون فيها البرء الناجع من أدواء التمرد ، والسيف المصلت في وجه من توسوس له نفسه بكسر تلك الهيمنة الإلهية في وجهة نظره .

أما "الأحاديث" فكانت الهمسات التأسيسية التي لا تقل أهمية عن وساوس الأمير ، فالحديث فيها عن حاكم انطاعت له رعيته واستقر به المقام لإقامة دولة تسعى للتمدد والبقاء بعد العصف بكل خارجي عليها .
ولن يغير من الأمر شيئا تلك المحاولات الاستنباطية التي اجتهدت في الكشف عن خبايا الأمير والباعث على تسطيره ، كتلك الأطروحة التي طرحتها "ماري ديتز "في كتابها "فخاخ الأمير" حيث كانت النصائح الملغومة هي مناط التفسير والتحليل لميكيافيللي المخادع المقنع الذي يرسل عباراته لأمير ساذج ليلقى حتفه بظلفه .
والحق أن تلك الأطروحة قد فُنّدَت شكلا وموضوعا من قبل الكثير من الباحثين في عصرها وعصور تليها، وقد استعرض "الطيب بو عزة" بعضا منها في كتابه الماتع "نقد الليرالية" فاستزاد وكفى فأوفى .

أما "#إدارة_التوحش" لكاتبه أبي بكر ناجي فالأمر فيه أهون بكثير لمحاولة استنباط تلك الرؤية السيكولوجية التي انطلقت من كلمات الرجل في أثناء رؤيته العبقرية لواقع قادم تنبأ به قبل حدوثه فأجاد في وصفه بتلك الكلمة "التوحش" التي مازال كثير من الكتاب والباحثين يدورون في فلكها في توصيف الأحداث العالمية التي تحيط بالكون إثر انتهاء عروش وقيام أخرى .

وعلى الرغم من اختلاف كثير من الإسلاميين على تلك النظرة التوحشية للرجل وكيفية إدارتها وتفريقهم بين مرحلتي التوحش الجزئي والتوحش الكلي ،فضلا عن التهيؤ لمرحلة التوحش ابتداء كما جاء ذلك في أطروحات المجاهد "أبي مصعب السوري" إلا أن العنوان يحمل في طياته الكثير من مضمون النظرية التي تثبت يوما بعد يوم صحتها واقعيا على الأقل ، فالسنن الشرعية والكونية والتاريخية تنتفي مع افتراض وجود مرحلة توحشية مهما بلغت درجتها ومهما استنزلت في دركاتها دون سلطان وإدارة تنظم الأمر وإن كان توحشا، فلا يُهدم نظام إلا ليقوم نظام وتلك ضرورة حتمية تستوي مع الفطرة التي جبل عليها البشر .

وقد يستدعي هذا تلك النظرة الاستبدادية التي يحاول الكثير الفرار منها تحت دعوى ضرورة إلغاء فكرة الحاكم المستبد العادل التي كثيرا ما نظر لها محمد عبده في كتاباته واعتبره كثيرون ارتدادا عن الفكر الإسلامي الحضاري .

أقول إن تلك النظرات وإن كانت هي المتعالي التي يجب أن ينادى به ، وهي المثال التي يظل دائما السعي وراءه بدافع ديني أو دنيوي هو المؤسس للكينونة التي ينبغي الإيمان بها والطموح لها ، إلا أن ذلك لا يخالف التنزل الواقعي ومعايشة ما هو كائن من صراع حضاري وجودي ينُد عن تعريفات السياسة وسوسيولوجيا الدراسات التي تعج بها معاجم الفقه السياسي والمواجهات العسكرية ، فإن المرحلة توحشية لا شك ولابد من التوحش من إدارة تدير وقيادة تسوق إلى بر النظام القائم على أنقاض إمبراطوريات تتهدم وأوثان تتحطم وأصنام تؤكل .

وقد عبر عن ذلك ناجي في كتابه بسطر هو الأخطر ، حيث قال : "إن الحياة في ظل أقصى درجة من درجات التوحش أهون كثيرا من العيش تحت ظل نظام كفري يوما واحدا " .

خلاصة الأمر .. إن الحركة تبعث الحركة ،فهي الولود أما السكون فجمود ، وعليه .. ينبغي أن تكون قراءة القارئ فرقانا بين التنظير المجرد الذي يمثل المتعالي في أخلص صوره ولن يكون إلا في بساتين جنة السماء أو فردوس الأرض إن قام تحت قيادة راشدة ، والتنظير المتحرك على الأرض الذي يصاب بما يصاب به الناس ويجهد بما يجهدون به ، ويجاهد فيما يجاهدونه، فيدفع ويدافع ويقرأ واقعا ويسطر فكرة ليصنع فردوسا خاصا لا يُعرف إلا في معاجم الكفاح الحق والجهاد العدل ، وإن عُرف قبلا في فردوس السماء .

فما أقرب الأمير من ظل التوحش وما أبعدهما !!
الخواطر على هامش التوحش والميكيافيللية
*كاتب مصري

زقاق النت

زقاق النت

مواضيع ذات صلة:

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.