من أسبوعين تقريبا، استضافت حلقة من برنامج "مصر تستطيع" على قناة DMC، باحث من كلية العلوم جامعة المنصورة، اسمه ماهر منير عقل، قال مقدم البرنامج إنه عمل بحث في مجال علاج السرطان، "أصبح حديث الأوساط العلمية في العالم كله".
فكرة البحث المزعوم بتقوم على سكر الجلوكوز الموجود في الدم، واللي خلايا الجسم بتعتمد عليه كمصدر أساسي للطاقة فيها، لكن خلايا السرطان بتستهلكه بمعدلات أعلى لأنها خلايا نشطة وسريعة التكاثر. فالباحث بيقول إنه عايز يربط الجلوكوز بمادة سامة تقتل خلايا السرطان لما تاخد الجلوكوز من الدم علشان تستهلكه.
فيه سؤال بديهي لما تكون دي فكرة البحث: الجلوكوز ده مش هيقتل الخلايا السليمة مع خلايا السرطان وفي الحالة دي هيقضي على المريض نفسه مش على السرطان بس؟
لكن ممكن يكون مقدم البرنامج تصور زي أي حد مش مختص إنه طالما البحث منشور في مجلة علمية زي ما الباحث بيقول، يبقى أكيد المراجعين اللي وافقوا على نشر البحث في مجلة علمية شافوا إن المشكلة دي فيه بذور لحلها على الأقل موجودة في البحث.
لكن الطبيعي وقتها إن فريق البرنامج كان يروح يشوف إيه هي المجلة دي ويتأكد من مستواها، فالمجلة اسمها Cancer Advances، وهي مجلة تصدر عن مؤسسة صينية، وتأسست من ٥ سنين فقط، وليس لها معامل التأثير.
معامل التأثير ده هو المعيار الأشهر والأسهل لمعرفة قيمة أي مجلة علمية، ومعناه ببساطة قد إيه الأبحاث اللي صدرت في المجلة دي تم الرجوع ليها من قبل أبحاث أخرى في مجلات أخرى، وده له معادلة معينة لاحتسابه، فأكيد لما تكون أبحاث المجلة بتستخدم كمرجع كتير في مجلات أخرى ده هيديها قيمة أكبر، مجلة نيتشر مثلا الشهيرة معامل تأثيرها سنة ٢٠١٧ كان فوق ٤١، وده دليل على قيمة ومكانة المجلة.
لما تكون عندي مجلة صينية، ومن المعروف إن الصين لسه عندها مشاكل في مجال البحث العلمي ودقته وتطوره، وعمرها كله ٥ سنين، وملهاش معامل تأثير أصلا، مع فكرة صعب قبولها منطقيا، ومع عدم وجود ردود أفعال عالميا خلافا لكلام المذيع عن إنه "حديث الأوساط العلمية"، ده كان المفروض يخلي فريق البرنامج على الأقل يراجع الموضوع أكتر قبل ما يقدمه للجمهور على الشاشة، على الأقل يتصل ببعض الأساتذة المختصين في جامعة المنصورة وباقي الجامعات المصرية يسألهم: سمعتوا بهذا البحث؟ طيب إيه رأيكم فيه؟
لكن اللي حصل إن مش بس البرنامج معملش كده، ده كمان الصحف الجماهيرية المملوكة لشركة المتحدة التابعة للأجهزة الأمنية زي جريدة اليوم السابع وجريدة الوطن معملتش كده، واكتفت بالحلقة علشان تطلع تقارير تتكلم عن الإنجاز العلمي غير المسبوق.
اللي عمل كده كان فريق صفحة متصدقش للتحقق من الأخبار، واللي قام بالتواصل مع عدد كبير من الأساتذة مش بس المصريين لكن حتى خارج مصر.
الأساتذة المصريين وغير المصريين قالوا إن التفاعل الكيميائي اللي استخدمه الباحث في الباحث وهو تسخين بيكربونات الصوديوم في محلول الجلوكوز، مش هيدينا المركب اللي الباحث بيدعي إنه وصل له، اللي هو الجلوكوزيدين، أو صوديوم الجلوكوز، ولو افترضنا إن عندنا هذا المركب فهيكون مركب غير مستقر، يعني بمجرد ما يوضع في سائل، الصوديوم هينفصل عنه ويكون هيدروكسيد الصوديوم (الصودا الكاوية).
البحث كمان بيستخدم عينة من أربع فئران فقط تم حقنهم بخلايا سرطانية، والمفترض تتبع حجم الورم فيهم مع العلاج وبدونه.
رغم صغر العينة، أحد الأساتذة اللي رجعتلهم صفحة متصدقش هي الأستاذة كاثرين هانلون، وهي أستاذة علوم صيدلانية في بريسبتريان كوليدج (بروفايل الأستاذة على صفحة الجامعة في المصادر)، قالت إن البحث مقدمش النتائج الإحصائية لنتائج المقارنة بين أثر المركب العلاجي ده على الخلايا السليمة والخلايا السرطانية.
ثقافة الكفتة
الحقيقة إن دي مش أول واقعة لترويج وسائل الإعلام الجماهيري الرسمية أو شبه الرسمية لأبحاث علمية وأفكار مزيفة بدون أدنى تحقق، بل وأحيانا بما يناقض المنطق والعقل السليم، رغم سهولة التحقق من زيف تلك الادعاءات، بل أصبح من المعتاد يوميا مصادفة أخبار من نوع الطفل اللي هيعمل مفاعل نووي بالنانوتكنولوجي، والطالب اللي اخترع مركبة فضائية أو سيارة بتمشي بالمياه.
منقدرش نفصل الاتجاه ده عن رعاية الدولة والمؤسسة العسكرية تحديدا لنصّاب هو إبراهيم عبد المعطي في ادعائه اختراعه جهاز لعلاج الفيروسات، كفيروس سي وفيروس الإيدز، بالإشعاع.
وقتها قائد الهيئة الهندسية مع إبراهيم عبد العاطي اللي ظهر يرتدي بدلة لواء في القوات المسلحة دافعوا باستماتة عن الجهاز رغم عدم وجود أي شاهد علمي ولا حتى فكرة تدل على جدية مسعاهم ده، وانتهى الأمر لافتضاح أمر هذا النصاب بتحقيق صحفي قام به الصحفي المصري الكبير الراحل محمد أبو الغيط في جريدة الشروق أثبت فيه اتهامه سابقا بانتحال صفة طبيب، ومصادرة الصحة لعيادته للعلاج بالأعشاب.
لا المؤسسة العسكرية حاسبت المسئولين عن هذه الفضيحة زي قائد الهيئة الهندسية وقتها اللواء طاهر عبد الله طاهر، ولا حتى اعتذرت عنها، ولا الإعلام اللي روج للجهاز اعتذر أو تعلم من الدرس، بل وحتى الوسط العلمي تم قمعه عشان مينتقدش اللي حصل، وكل حاجة بتعدي في الزحمة.
نشر الثقافة المزيفة دي مرتبط بخطاب سياسي بيتم ترويجه بشكل عام خلال السنوات الي فاتت، قائم على ترويج إنجازات وهمية، وطرح تفسيرات خرافية لكل الأخطاء اللي ممكن تقع فيها الحكومة أو الإدارة في أي مؤسسة، لتجنيب المسئول تحمل مسئولية فشل سياساته.
كل دا رغم إن عندنا باحثين مجتهدين وعلماء وناس بذلت للعلم والبشرية بأبحاث في مجال السرطان وغيره واللي نادراً ما نسمع عنهم، وهنا في صفحة الموقف المصري بنحاول جاهدين نسلط الضوء على قد ما نقدر عليهم بدون مبالغة ولا تضخيم.
ليه معندناش صحافة علمية؟
ده مرتبط بالتأكيد بتردي مستوى المؤسسات الصحفية دي سواء من ناحية فلسفتها أصلا ورؤيتها الإعلامية لما ينبغي تقديمه للناس ومدى المهنية فيه، أو من ناحية كفاءة العاملين فيها وقدرتهم على التحقق من الأخبار والموضوعات وانتقاء الجاد منها.
استمرار إعلام الأجهزة في نشر العلم الزائف والخرافات وتقديم النماذج الهزلية لأطفال الإعلام ده نفسه بيساهم في العبث بهم وبأفكارهم الطفولية البسيطة من خلال محاولة تقديمها كاختراعات علمية.
في مقابل حالة التردي دي في الخطاب العام ومستوى الصحافة وغياب الصحافة العلمية برمته، بنشوف الأشقاء في دول الخليج العربي بيحاولوا يطوروا الصحافة العلمية والتقنية لديهم بشكل هائل، وبيستضيفوا نسخ عربية للمجلات العالمية زي نيتشر.
كتير من العاملين في الصحافة العلمية العربية دي في الخليج شباب مصريين، لكن لا فرصة لهم في المؤسسات المصرية في ظل رواج ثقافة الكفتة والإنجازات الوهمية، والتفسيرات الخرافية عن دور السحرة والجان في كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، وترويج الإعلام لها.
الثقافة العلمية والمنهج العلمي الصارم في التعامل مع القضايا والمشكلات الطبيعية والاجتماعية هو طريق النهوض الحقيقي لأي بلد، وكل من يساهم في عكس هذا الاتجاه لا يريد الخير لبلده ومجتمعه وإن ادعى خلاف ذلك.
الموقف المصري
المصادر
تحقيق محمد أبو الغيط في الشروق عن جهاز الكفتة
تصريحات قائد الهيئة الهندسية عن جهاز الكفتة
https://www.almasryalyoum.com/news/details/433466
صفحة مجلة Cancer Advances
تحقيق صفحة متصدقش حول البحث الزائف
صفحة الدكتور كاثرين هانلون
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق