الديلر الإبراشي.. وقاعدة "إنسان عض كلب"



عبدالرحمن كمال
( 1 )
"كلب عض إنسانا ليس بخبر.. ولكن إنسان عض كلب هذا هو الخبر".. قاعدة عتيقة مرتبطة بالإعلام بكافة أشكاله مرئيا أو مقروءا أو مسموعا، تنم عن دلائل جمة، قد تمثل التعبير عن الشذوذ عند البعض، وقد ترمز إلى تسليط الضوء على غرائب الأمور عند البعض الآخر، وقد تشير إلى دور الإعلام فى مناقشة غير المألوف عند بعض ثالث، وغير ذلك من الدلائل التى يضيق وقتنا فى ذكرها، فكل يراها وفقا لما يحب ويرضى.
غير أن الإعلام المصرى – لاسيما عقب سيطرة جيش كامب ديفيد على مجريات الأمور وتدميره أحلام ثورة عقب نهبه لمقدرات وطن- أكد أن المدلول الوحيد لهذه القاعدة هو إشغال الشعب فى توافه الأشياء وسفاسف الأمور كنوع من التضليل والتغييب والتخدير للحيلولة دون معرفته بحقيقة اللعبة وجوهر الخدعة التى وقع فريسة لها.
( 2 )
شاء حظى العثر ان أشاهد بعض فقرات من حلقة وائل الإبراشي، مقدم برنامج العاشرة مساء على قناة دريم المملوكة لرجل الأعمال أحمد بهجت-وكفى بها نقمة- والتى ناقشت أمس السبت، كارثة –أو مجزرة وفقا لوصف الإبراشي نفسه- قيام بعض المتوحشين بقتل كلب بطريقة بشعة بعد تعذيبه بشكل أبشع.
انهال الضيوف بكيل الاتهامات وسيل من الإهانات على أهالى قتلة الكلب، أولئك المنزوعة من قلوبهم الرحمة الذين أساءوا تربية ذويهم، وطبعوهم على القسوة والوحشية والبربرية والإجرام، ولنا أن نتخيل المصرى حين يبدع وهو تحت تأثير المخدر.
لم أكن قد شاهدت فيديو الاعتداء على الكلب وقتله، ولم ولن أتعاطف مع القتيل، فلن أسمح لنفسي بمثل هذه الإهانة، ولن أمنح عقلى الباطن والظاهر جرعة من المخدر الذى سوق له الديلر الإبراشي، والتحجج بان التعاطف مع الحيوان يعنى بشكل أو بآخر شهامة المتعاطف وبالتالى الحصول على صك الإنسانية.
تناسي الديلر الإبراشي عن عمد أو بأمر-لن تفرق كثيرا- أنه فى نفس اليوم الذى قُتل فيه الكلب، قتل فيه 3 مواطنين مصريين "بنى ادمين" فى سجون السفاح محمد إبراهيم،  ووفقا للقاعدة العتيقة سالفة الذكر، فمن الطبيعي أن يهتم الديلر الإبراشي بالكلب الذى عضه الإنسان فمات، ويهمل مقتل 3 مصريين على أيدي كلاب الداخلية، فكما ذكرنا " كلب عض إنسانا ليس بخبر.. ولكن إنسان عض كلب هذا هو الخبر".
( 3 )
لن أناقش الأمر من الناحية الشرعية، فالديلر وأمثاله يفزعون عند الاستدلال بما قاله الله ورسوله، ويسارعون دوما بإتهام المستدل بكونه تاجرا للدين متاجرا به، وبأنه يزج ويتقول على الله ورسوله، والجملة الأخيرة قالها الإبراشي نصا لأحد ضيوف الحلقة الذين انسحبوا دون إتمامها بعد علمهم المتأخر بالكمين الذى نصبه لهم الديلر.
وحتى حينما روى أحد المتصلين الحديث الذى ورد فى صحيح مسلم، ونصه كما ورد فى الصحيح: { عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " قَالَ: فَقُلْتُ لِلْقَاسِمِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَيَّةَ؟ قَالَ: «تُقْتَلُ بِصُغْرٍ لَهَا»}
وفى رواية أخرى بصحيح مسلم أيضا:  { سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ قَالَ: حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ: «كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْحُدَيَّا، وَالْغُرَابِ، وَالْحَيَّةِ» قَالَ: «وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا»}
وفى سنن الدارمي: {عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةِ، وَالْغُرَابِ، وَالْفَأْرَةِ، وَالْعَقْرَبِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ " - إسناده صحيح}
حينما روى أحد المتصلين هذا الحديث الشريف، وانتقد تحامل الديلر الإبراشي على أهالى قتلة الكلب، الذين تعرض ابنهم لعضة من الكلب العقور فى خصيته –وفقا لما ذكر الطبيب المعالج- انتفض الديلر ودافع عن حق الإعلام فى التعرض لمثل هذه الأمور، وردد كالببغاء أن التعاطف مع الحيوان يعنى بالضرورة التعاطف مع الإنسان، وتعرض بالتلميح إلى مقتل 3 مصريين على أيدي كلاب السكك بداخلية السفاح محمد إبراهيم إثر تعذيبهم فى سلخانة قسم المطرية، وكيف ان النائب العام المبجل تكرم وأمر بحبس اثنين من ضباط الأمن الوطنى فى واقعة تعذيب -الشهيد بإذن ربه- كريم مجدى المحامي تفاديا لتكرار تلك الانتهاكات الفردية على حد وصف الديلر.
( 4 )
ان اختيار الإبراشي لهذه القضية فى هذا التوقيت لم يكن اعتباطا، بل هو أمر له أسبابه، وهي الأسباب التى سنتوقف عندها قليلا ولكن بعد الإشارة إلى أن مسألة قتل الكلب العقور لم ترقَ لأن تكون ظاهرة تحدث بشكل يومي وتستحق أن يفرد لها أحد أكبر برامج التوك شو –من حيث المتابعة لا القيمة- حلقة كاملة، بل كان من الأولى على الديلر الإبراشي أن يفرد حلقات  وحلقات للظاهرة اليومية الحقة والحقيقية التى تحدث مرارا وتكرار بشكل يومي، ألا وهي تعذيب المعتقلين فى سجون السفاح محمد إبراهيم، كان من الممكن لو أن هذا الإبراشي يحترم بالفعل متابعيه –الذين يغلب عليهم العته والانسياق- كان من الممكن وبما ان مقتل الكلب قد وجع قلبه ولامس شغاف فؤاده، كان ممكنا ان يتعرض للقضية بشكل هامشي كنوع من الاستدلال كما فعل مع المتصل الذى استدل بالحديث، لكن الديلر قلب الأمور، جعل من الهامشي رئيسا ومن الضرورى تافها، حول مقتل كلب عقور تأذى بسببه 8 أشخاص إلى قضية رأي عام، وسرعان ما انهالت عليه اتصالات التافهين امثال دينا فاروق زميلة الديلر التى كالت وأهانت أهالى المتهمين بقتل الكلب العقور، وتفاخرت انها كانت من ضمن الذين نظموا وقفة تضامنية مع الكلب.. الطيور على أشكالها تقع –أو الكلاب على الأحرى.
أراد الديلر لحادث مقتل الكلب أن يغطى على كارثة مقتل 3 مصريين فى سجون عبدالموساد الصهيوني، لم نرى أمثال دينا فاروق تطالب بوقفة ضد مقتل المصريين فى سجون ميليشيات كامب ديفيد، ولم يتطرق إعلام العسكر إلى توابع مقتل المواطنين، حيث ألقى القبض على ذويهم بعد رفضهم تقارير الطب الشرعي التى اضطرت لإثبات الحقائق بعد افتضاح الأمر.
( 5 )
نعود إلى الأسباب التى حدت بالديلر إلى أن يفرد حلقته للكلب القتيل، بعد أيام قليلة من تخصيصه حلقة كاملة للراقصة سما المصري، والفقرة السابقة بها أحد هذه الأسباب، ولكنه سببا مباشرا، ولكن بالتخلي عن النظرة القطرية الضيقة، وبالخروج إلى براح النظرة الأعم لكيفية إدارة الإعلام ودوره فى التضليل، وبالعودة قليلا إلى دور الإعلام عقب ثورة 25 يناير، نجد أن الإعلام المصرى اتبع قاعدتين معروفتين فى كافة وسائل الإعلام العالمية والتى بالطبع لا تقدم محتواها وفقا لمهنية او موضوعية.
فهناك قاعدان أساسيتان تحكمان المحتوى الذى يقدمه الإعلام للمتلقين، وهما:
الفورية: وتعنى نقل أخبار فورية سريعة بصورة جنونية ودون توقف، هذه الأخبار المتتالية الفورية.
والتجزيئية: وتعني تقسيم الأخبار إلى قطع صغيرة لكل منها تفسير بسيط سريع يُنسى بسرعة البرق ثم يتم الانتقال إلى ما يليه من خبر "فورى" له تفسير "تجزيئي"
مثال على ذلك: أخبار الحوادث فى مدينة معينة واحداث ساخنة عن وقفات احتجاجية واعتصامات فئوية وانتخابات برلمانية ومشاكل الحكومة، كل هذه الحوادث والأخبار ينقلها الإعلام باستمرار، ثم يقوم بتقديم تفسير سريع جدا لكل حادثة على حدة، بعده ينتقل إلى الأمر التالى دون توقف، مشهد جنونى مشتبك متتالي يعيشه الشعب ويفقد القدرة على ملاحقته لفرط سرعته.
ويعتبر الناقد الأمريكي هربرت شيلر فى كتابه "المتلاعبون بالعقول" أن "الفورية والتجزيئية" من أشد وسائل الإعلام وطأة فى تضليل الشعب الأمريكي، وبقليل من التدبر سنجد أنهما مستخدمتان على نطاق واسع في عامة الأنظمة فى إطار إدارة الصراع العالمي، ولكن ما نتيجة هاتان السياستان الإعلاميتان؟
إنه المواطن السلبي الضائع، مواطن غير قادر على الحصول على تفسير منطقي وتكوين صورة كلية حقيقة للمشهد السياسي الجاري أمامه، فهو تائه بين أمور وأخبار وأحداث كثيرة.. لكن يظهر تساؤل جديد أيضا : "لماذا عملية إضعاف الوعي هذه؟
السبب الرئيس لهذه العملية هو ان بهذه الصفة سيظل المواطن تائها، حتى إذا رغبت وسائل الإعلام فى توجيهه فى لحظة ما إلى دعم قضية معينة أو الاهتمام بها –كمقتل الكلب مثلا- وإهمال قضية حيوية –كمقتل 3 مواطنين فى سجون الداخلية مثلا- بنفس هاتان السياستان الإعلاميتان، فيكون المتوقع أن تحقق وسائل الإعلام نجاحا كبيرا.
إذن فالفورية والتجزيئية تستخدمان طوال الوقت فى الإعلام كوسيلة أساسية لجعل الشعب مضللا تائها سلبيا لايدرك حقيقة الصورة الكلية لبلده، وعندما يحين التوجيه فى وقت ما نحة تحقيق هدف ما، يتم استخدامهما بكثافة توجيهية وانتقائية تزيد من تضليل المواطن كى يشارك فى الإيمان بأهداف وقضايا "النخبة السياسية" ويتخلى عن القضايا التى لا يريد النظام للشعب أن يعرف عنها أو يسمع بها.
( 6 )
ان القارئ لكل هذا قد يهز رأسه فى تفهم وحماسة، لكن المشكلة الحقيقية أنه مع تنوع المخاطر وجاذبية وسائل الإعلام، فإنه سينشغل لا محالة بعد وقت قصير بمات الأخبار الفورية ليعيش أسيرا مرة أخرى في قفص التجزيئية التفسيرية، عاجزا عن إبصار الصورة الكلية ورؤية واقعه الحقيقي، وبالتالى يبقى عاجزا عن رؤية حدوده المرسومة بدقة كي لا يتجاوزها.. وينبغى ان نعلم أن "القدرة على رسم حدود الواقع هى القدرة على السيطرة" وفقا للقاعدة التى أرساها جيري روبين أحد أبطال التاريخ الأمريكي.
إن الديلر الإبراشي وأقرانه من زبانية الإعلام، ليسوا بالذكاء الخارق الذى قد يظنه البعض فى حال اقتناعه بحقيقة القاعدتين السابقتين، ولكن الأمر ينبغى النظر إليه بشكل أكبر وبعيون عالمية بعيدا عن القطرية التي تعترى تفسير كل المحللين لما يحدث فى مصر، والإعلام المصري كان ولا يزال عدوا مبينا للثورة ويد باطشة لجيش كامب ديفيد، ورغم استخدام القمع والعنف بأشنع أشكاله وهيئاته منذ الانقلاب العسكرى فى يونيو 2013، وبرغم عدم جدوى التلاعب كثيرا بالشعب فى ظل استخدام ميليشيات كامب ديفيد لسياسات الحديد والنار مع ثورة يناير، إلا ان جيش كامب ديفيد القمعي لم يتخلى عن الإعلام تلك الوسيلة المبهرجة الخداعة للتلاعب بالشعب، فجعلها تستمر وتعمل بكافة طاقتها فى تغييب شعب ضخم عن عالم مفتوح من كل الاتجاهات، وقد نجح فى ذلك بصورة يصعب تصديقها في هذا العصر!!
لمعرفة المزيد حول أهمية التخلى عن النظرة القطرية لفهم حقيقة ما يدور فى مصر والمنطقة: يمكن العودة إلى كتاب وطن الراشدين الصادر عن دار القِمري للمفكر الشاب عمرو عبدالعزيز.



amrmahmoud31@gmail.com

زقاق النت

زقاق النت

مواضيع ذات صلة:

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.