«CNN» تبحث عن أيقونات القصص الإخباريّة



لا يمكن لأحدٍ أن يعود إلى كتبٍ توثّق حرب فيتنام، من دون أن يرى صورتها وهي تركض عارية. إنّها كيم فوك. إحدى الأيقونات الإخبارية التي جسّدت من دون أن تدري، بشاعة الحرب. لكل حربٍ أو مأساة وجه، أو عدد من الوجوه التي تأخذ على عاتقها اكساء الأرقام المجرّدة، لحماً ودماً. هكذا كان الأمر مع محمد الدرة، وأطفال المجاعات الإفريقية، وكلّ طفلٍ سوري أمام خيمة أو تحت الأنقاض.

لكن غالباً ما يتلاشى اهتمام الناس بأبطال النشرات الإخبارية، مع تقدّم أحداث جديدة وأبطال جدد يفرضون أنفسهم على الساحة. لذلك ربما، قررت «سي أن أن» اليوم خوض تجربة مختلفة، تبدأ فيها رحلة التقصّي عن مصائر بعض الأيقونات الإخبارية، ضمن مشروع «عودة إلى الخلف: أين هم الآن؟».

اختارت القناة الأميركيّة أن تكون البداية مع كيم فوك. الفتاة التي كانت في التاسعة من العمر في الصورة الفوتوغرافية الملتقطة العام 1972، أصبحت اليوم في الخمسين. تقول إنّها كرهت في البداية تلك الصورة لأنها أحرجتها، وسلبت منها لحظة بالغة الخصوصية. لكنّها في ما بعد فكرّت بأن تلك اللقطة يمكن أن تكون «طريقاً نحو السلام».
كيم الصغيرة أصبحت اليوم سفيرة للنوايا الحسنة في الأمم المتحدة. كما أسّست جمعيّة تهتم بمساعدة الأطفال الذين وقعوا ضحايا للحروب، ما جعل «سي أن أن» ترى في قصتها «رحلةً من الحرب نحو المغفرة»، إذ أنّ خيارات كيم جاءت متوافقة مع توجهات القناة في الإضاءة على كل من يغفر ما فعلته الولايات المتحدة في فيتنام.
يروي المصوّر نيك يو تي الذي التقط الصورة لصالح وكالة «أسوشييتد برس»، في لقاء مع القناة، التفاصيل التي لم تظهر في الكادر. فالفتاة التي خلعت ثيابها كي توقف احتراق النبالم على جسدها تضررت بشدة. سكب المصوّر الماء عليها ونقلها مع أطفال آخرين في شاحنته إلى المستشفى، وهناك احتاجت عاماً كاملاً كي تشفى، وتمنت الموت مئات المرات.

وفي تقريرٍ آخر، تعود المحطة الأميركية إلى عائلة ريتشارد ومايومي هيني اللذين اشتهرا العام 2009، حين قدَّما بلاغاً بأنّ ابنهما طار على متن بالون هيليوم فضّي صُنع في منزل العائلة. القصّة التي باتت تعرف بـ «طفل البالون» أثارت غضباً جماهيرياً إثر اكتشاف كذب الوالدين الراغبين بلفت الأنظار إليهما وكسب الشهرة. ولذلك يمكن السؤال عن جدوى عودة القناة اليوم لتتقصى أخبارهما. ألا يعني هذا أن عائلة هيني نجحت في جذب الاهتمام الإعلامي باعتماد الكذب المباشر، وما زالت تفعل ذلك حتى الآن؟

وفي سياق لا يبتعد عن مشروع «سي أن أن» ويؤكّد تأثير آلية شخصنة الأحداث المعقدة، قوبلت صورة عجوز يوناني أمام مصرف، باهتمامٍ إعلامي مكثّف. في الصورة التي التقطتها وكالة «أسوشييتد برس»، يجلس الرجل (77 عاماً) ويبكي بحرقة، بعدما كان عاجزاً عن سحب راتب زوجته من المصرف. أزمة اليونان التي حوّلت البلاد إلى ملفٍ أخباريٍ مُعقد، وأثقلت نشرات الأخبار بالمستجدات، اختزلت بصورة الرجل الكهل الذي يبكي أمام المصرف. إلا أنّ الأزمة لا تُختصر بالكامل بتلك الصورة. ذلك ما لم يفهمه البعض ربما، حين سارعت مؤسسة أسترالية، بدافع التعاطف وحسن النوايا ربما، للبحث عن صاحب الصورة وتقديم مساعدة مادية له. ذلك قد يحل مشكلة الرجل الفردية، إلا أنه لا يمكن أن يحل أزمة مستعصية كأزمة اليونان. هو مثالٌ آخر عن الآثار السلبية التي قد تنتج عن المبالغة بشخصنة الأزمات، بحيث يبدو أن بطل القصة الإخبارية، هو كل القصة، وليس مجرد جزء منها.

يعد التركيز على المنظور الشخصي، وإحالة الأرقام إلى أناس يتنفسون ويتألمون، إحدى الطرق الهامة التي يلجأ إليها الإعلاميّون في محاولة دفع الناس إلى التأثر، خصوصاً في النزاعات الطويلة والمستعصية، التي تفقد اهتمام الناس. تشير الدراسات الإعلامية إلى ما يسمّى بـ «التقمص الوجداني» للضحايا في النشرات الإخبارية، إذ يضع المشاهدون لا شعورياً أنفسهم مكان الضحايا ويحاولون تخيّل مشاعرهم. لكن بالرغم من هذا، يبقى لذلك النزوع نحو البحث عن وجوه جديدة تصلح لأن تكون ملصقاً أو «صورة القرن» آثاراً سلبية. فبالعودة إلى «سي أن أن» ربما كان من السهل تعقّب أثر كيم وعائلة طفل البالون، لكن تلك ليست هي الحال دائماً. فكثير من أبطال القصص الإخبارية يطويهم النسيان، بمجرد أن تبتعد عنهم عدسات الكاميرا، خصوصاً وأن صناعة الأخبار تحولهم إلى سلع، وتزيل صورهم من على الرف أمام صورٍ قد تكون أقدر على رفع معدلات المشاهدة، أو تحقيق أهداف سياسيَّة تلائم القناة. بالتأكيد «سي أن أن» وغيرها، ستتجنَّب تماماً التقليب في دفاتر الماضي أو البحث عن عائلات الكثير من الضحايا في العراق وفلسطين وسوريا ولن يخطر في بالها أن تسأل: «أين هم اليوم؟».

زقاق النت

زقاق النت

مواضيع ذات صلة:

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.