أحدث الموضوعات
recent

مقابلة خاصة مع ابن الجنرال!


 

عبدالرحمن كمال

المشهد قبل الأخير بعد سنوات التدمير الممنهج والمتعمد الحاصل في مصر، برضا وموافقة الأجهزة السيادية وفي القلب منها الجيش، عندما يهرب قيادات النظام الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، بعد أن أدّوا مهمتهم كاملة بأن قضوا على أي بادرة أمل في مستقبل وأجهزوا على كل إرث نافع من ماضٍ، وهمّوا إلى الطائرات ليلحقوا بأموال مصر التي نهبوها وباعوها وهربوها إلى أولياء نعمتهم في الخارج، تاركين خلفهم شعبا يموت عطشا وجوعا بعد أن قضى نحبه كمدا، مصطحبين معهم بهاليلهم وقوادينهم وعاهراتهم؛ ليسروا عنهم في الخارج تماما كما كانوا "يعرصون" لهم في الداخل، غير آبهين بنظرات قتلاهم وأنات ضحايا إجرامهم.

هذا المشهد هو ما قبل الأخير، ما قبل تحقيق نبوءة وتحذير الشهيد الراحل جمال حمدان، الذي يزعم الجنرال أنه كاتبه المفضل! تلك النبوءة التي توقعت أن تتحول مصر يوما من تعبير أو مصطلح جغرافي إلى مجرد تعبير تاريخي. هذا المشهد هو دوما ما أتخيل حدوثه وأخشاه في نفس الوقت، مشهد شبيه بيوم القيامة في نسخته المصرية: يوم الفرار: فرار على ناحيتين، الأولى للجنرال وحاشيته، الذي يفر مع أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وطبقته التي تؤويه. والفرار الآخر هو ذلك الذي يخص السواد الأعظم الذي ينتظر الموت، إذ يفر المرء منهم من أخيه وأمه وابيه وصاحبته وبنيه ووفصيلته التي تؤويه، فلكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، ما بين فقر يضنيه ونار جوع تشويه وعطش يهلكه ويفنيه.. يفرون جميعا من الموت إلى الهلاك.

لم يغب هذا المشهد من بالي منذ سنوات، تذكرته حين قرأت عن هروب المحتل الأمريكي من فيتنام إثر الهزيمة، تاركا خلفه جيشا من مخبريه وجواسيسه الذين خدموه بإخلاص وأعانوه بتفانٍ، فتركهم لفنائهم.

تذكرته مجددا عندما قرأت قصيدة "مقابلة خاصة مع ابن نوح" التي كتبها أمير شعراء الرفض العربي، الراحل النبيل أمل دنقل. ليست هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها القصيدة، لكنها المرة الأولى التي أدرك فيها أن أمل دنقل هو الآخر تنبأ بمثل ما حذّر منه الشهيد جمال حمدان، وتوجس خيفة -قبل عقود- من ذات المشهد الذي نخشاه اليوم.

تبدأ القصيدة بالحديث عن الطوفان والمدينة التي تغْرقُ شيئاً فشيئاً: البيوتِ، الحوانيتِ، ومَبْنى البريدِ، البنوكِ، التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين)، المعابدِ، أجْوِلةِ القَمْح، مستشفياتِ الولادةِ، بوابةِ السِّجنِ، دارِ الولايةِ، أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ. كم كان عظيما أمل دنقل في سرده لمعالم المدينة التي أغرقها الطوفان.

بعدها ينتقل أمل دنقل في قصيدته إلى الحديث عن "يوم الفرار"، ويقسمه أيضا إلى لوحتين: الأولى عندما يفر الحكام، أو "الحكماء" كما ساهم أمل، نحو السفينة. مرة أخرى يبدع أمل دنقل في استعراض فئات الفارين الذين يعود أمل دنقل فيصفهم بـ"الجبناء": 

المغنونَ سائس خيل الأمير المرابونَ قاضى القضاةِ

(.. ومملوكُهُ!)

حاملُ السيفُ راقصةُ المعبدِ

(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)

جباةُ الضرائبِ مستوردو شَحناتِ السّلاحِ

عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!

هؤلاء هم أبطال اللوحة الأولى، رموز النظام الذي عاث في الأرض الفساد. إن الطوفان أمرا حتميا عندما يكون هؤلاء هم رموز البلاد.

في لوحة الفرار الثانية، يتحدث أمل دنقل عن شباب المدينة الذين يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ وينقلونَ المِياهَ على الكَتفين ويستبقونَ الزمنْ يبتنونَ سُدود الحجارةِ عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!

"انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!" كانت تلك الجملة هي التصرف الوحيد من "سيد الفلك" وجنرال البلاد الذي أغرقها بفشله وفساده واستبداده وخيانته. كانت تلك النصيحة هي الجملة الوحيدة -على غير العادة- التي قالها الجنرال الذي اعتاد دوما أن يخطب في الناس ناصحا وموجها وزاعقا وناعقا، زاعما احتكاره الحكمة والرؤية هازئا بكل دعوة محذرة وأي نصيحة منذرة. قالها وهو يرفع الصواري، ويؤمن على حاشيته وطبقته الذي طعِموا خُبز الوطن في الزمانِ الحسنْ، وأداروا له الظَّهرَ يوم المِحَن!

ورغم الأنفة والكبرياء والعزة التي أجبرته على رفض دعوة "جنرال الفلك"، آملا في الركون إلى جبلٍ لا يموت (يسمونَه الشَّعب!) لكن ذلك لم يغير من المصير الأسود (الذي توقعه جمال حمدان) في شئ، وانتهى به الحال راقدا فوقَ بقايا المدينة وردةً من عَطن.. هادئاً.. بعد أن قالَ "لا" للسفينة.. وأحب الوطن!

زقاق النت

زقاق النت

ليست هناك تعليقات:

يتم التشغيل بواسطة Blogger.